مشاري الذايدي
لا بأس علينا، ونحن نبصر اسفنجة الطائفية في العالم العربي مثقلة بمائها الى أقصى درجات التشبع، أن نستعير صورة من أعماق التاريخ الاسلامي، تشابه الى حد مأساوي، ومثير، ما يجري هذه الايام في لبنان، وتحديدا مشهد حصار رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، في السراي الحكومي، من قبل laquo;ثوارraquo; حزب الله، ومعه laquo;أهل الامصارraquo; من laquo;زغرتا فرنجيةraquo;، وأرياف الجنرال عون المارونية.
الصورة التاريخية هي صورة حصار الخليفة الثالث عثمان بن عفان، في laquo;الدارraquo; من قبل ثائرين من مصر والعراق، ومعهم من معهم من أهل المدينة.
وهنا، وقبل ان نمضي في قراءة هذا التشابه، نشير الى أن التشبيه ـ حسبما هو بدهي! ـ لا يعني تطابق أجزاء الصورتين بالكامل، وإلا لأصبحنا نشير الى حالة laquo;توأمةraquo; لا الى حالة تشابه من بعض الوجوه. والأمر الثاني: لا تعني الاشارة الى حادثة حصار الخليفة عثمان، والرئيس السنيورة الغاء مقام عثمان بن عفان في التصور الديني التاريخي، السني طبعا، ولا يعني ايضا الارتقاء بالسنيورة الى مصاف الصحابة، وإنما هي صورة ملحة الحضور، بسبب عوامل الاغراء، التي ربما يوافقني عليها، بعد قليل، بعض القراء، بين الصورتين.
الذي يجري هذه الايام في لبنان، هو laquo;ثورةraquo; الشيعة، نقول الشيعة، لأن هذا هو ما يجري بلا تزويق دبلوماسي، وأيضا بسبب احتكار الحزب laquo;الالهيraquo; لتمثيل الطائفة، ضد السنيورة والطلب منه أن laquo;يخلع قميصraquo; رئاسة الوزراء، بسبب أنه أقصى جماعة حزب الله وأمل ومعهم laquo;بعض أهل الامصارraquo; من مسيحيي عون وفرنجية، وlaquo;مع المع!raquo; بعض فلول البعث والحزب القومي السوري، وآخرين.
السنيورة، وجماعته الآذاريون، عند محاصِري السراي، هم لا شرعيون، والمطلوب منهم الخضوع، وإدخال وإنصاف الثوار وlaquo;اهل الامصارraquo;، الذين لا يبالون بالضوابط الدستورية هنا.
الطلب الرئيسي إذن هو استقالة حكومة السنيورة، وتشكيل حكومة laquo;وحدة وطنيةraquo;، اي حكومة يملك فيها حزب الله ومن معه ضمان مصالح الحزب، وعلى وجه الخصوص سلاح الحزب، وايضا ضمان أن لا تمر مسألة المحكمة الدولية بما يضر سوريا... واشياء اخرى، لأطراف أخرى.
السنيورة يرفض، رغم اشتداد وطأة الحصار، وقربlaquo;الشبابraquo; المتجمهرين، الى درجة انه لو القى لهم بكأس فارغة لربما تلقفها المعتصمون بالخيام، ولا ندري طبيعة laquo;الشبابraquo; القابعين في هذه الخيام الكثيرة، والقريبة، فلربما كان ظاهرهم شباناlaquo; مدنيينraquo; يمارسون اعتصاما حضاريا، وباطنهم عناصر عالية التدريب تابعة لحزب الله، لو دعت لهم الحاجة، وهم على مرمى حجر من السراي! خصوصا ونحن نعرف أنه لا مكان للصدفة او الارتجال في اعمال حزب الله، كما يفخر قادته ومسؤولوه، ومنهم غسان درويش المسؤول الاعلامي عضو الهيئة التنظيمية في laquo;حزب اللهraquo;، من خلال افتخاره أمس في حديثه لـlaquo;الشرق الاوسطraquo; بقوات laquo;الانضباطraquo; لدى الحزب الاصولي، التي تصل، حسب كلامه، إلى laquo;عشرين ألف عنصر يتولون الانضباطraquo;.
السنيورة ورغم احتمالية اقتحام السراي، وربما حدوث اشياء laquo;لا تحمد عقباهاraquo;، في ظل هذا الغليان، رغم هذا إلا أنه متشبث بموقعه، ورافض للاستقالة، او هدم الحكومة الحالية، وحجته أن الدستور معه، وقال امس بالنص، وهو يحذر من اقتحام السراي: laquo;انا لن ارحل. انا جالس هنا طالما أتمتع بثقة مجلس النواب. انا موجود هنا بثقة اللبنانيين وثقة المؤسسات الدستوريةraquo;.
قارنوا هذا الكلام، بكلام الخليفة عثمان بن عفان، في حوار ذكرته المصادر التاريخية للخليفة مع أحد قادة المحاصرين له في الدار سنة 35 هجرية، وحسب المصادر، أن عثمان حينما رأى الحصار عليه في دار الخلافة قال للأشتر: laquo;يا أشتر ما يريد الناس مني؟ قال: ثلاث ليس لك من إحداهن بدّ، قال: ما هن؟ قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم، فتقول هذا أمركم فاختاروا من شئتم، وبين أن تقص من نفسك، فإن أبيت هاتين فإن القوم قاتلوك. قال: أما ما من إحداهن بدّ؟! قال: لا، ما من إحداهن بدّ. قال: أما أن أخلع لهم أمرهم، والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إليّ من أن أخلع أمة محمد بعضها على بعض، وأما أن أقص من نفسي فوالله لقد علمت أن صاحبيّ بين يديّ قد كان يعاقبان وما يقوم بدّ من القصاص، وأما أن تقتلوني فوالله لئن قتلتموني لا تحابّون بعدي أبداً، ولا تُصلّون بعدي جميعاً أبداً ولا تقاتلون بعدي عدواً جميعاً أبداraquo;.
ولاحظوا الجملة الاخيرة من كلامه المنسوب إليه، ففعلا هذا هو الذي جرى بعد مقتل عثمان بتلك الطريقة المأساوية في منزله، وهو شيخ كبير طاعن في السن، حيث تسور عليه القتلة، ومنهم ابناء صحابة، واهل أمصار من خارج المدينة، قتل عثمان وهو يقرأ القرآن، وشعر الناس بالصدمة، خصوصا أن عثمان قتل أيضا وهو صائم، بعد حصار دام حوالي اسبوعين، ثم تتالت الاحداث، وتشعبت الاحزاب، واصبح دم عثمان وقودا لخلافات عظيمة وكثيرة، واندلعت الحروب، بين جميع الأطراف، وأطل عصر الفتنة الكبرى.
الآن، لو نجح حزب الله ومن معه، في ظل هذا الشحن والغليان الطائفي (هناك تقارير تتحدث عن توتر عال في المناطق السنية)، وصمد السنيورة، ورفض أن laquo;يخلع القميصraquo;، الذي ألبسه laquo;الدستورraquo; إياه، وحصلت الواقعة، واقُتحم السراي، كيف سيكون الحال؟!
هل سينشب عصر laquo;فتنة كبرىraquo; في لبنان، يلتحم بفتنة أكبر تشهدها منطقتنا بين السنة والشيعة في العراق وأطراف الخليج؟!
لقد تسبب مقتل عثمان، بعد حصاره في الدار، بشرخ هائل ودائم، قتله فريق مختلط المطالب، وغامضها أيضا، بين من يريد من الخليفة ان يمارس الحزم ويقصي اقاربه الامويين من المناصب، وبين من لا يراه جديرا بموقع الخلافة، وبين مطالب ودوافع متعددة، منها الشخصية البحتة، مثلما يذكر المؤرخ الطبري في تفاصيل المقتلة أن رجلا من المقتحمين يقال له سودان: laquo;ضرب عثمان بالسيف على كتفه فشقه، ثم نزل عليه بخنجر فضربه تسع ضربات وهو يقول: ثلاث لله وست لما في الصدورraquo;!
طبعا مقتل عثمان والثورة عليه، قصة معقدة، وقد جمعت laquo;جبهةraquo; من المعارضين، كل له طلبه المختلف، والآن، في الثورة على السنيورة وفريقه، هناك من يريد laquo;الثلث المعطلraquo; من أجل حماية سلاحه وlaquo;نفوذهraquo; وولايته الخفية على لبنان وقراره، ويستمر في خدمة الداعم الايراني والسوري، وهناك من يريد موقع رئاسة الجمهورية، مثل الجنرال laquo;المتفاهمraquo; عون، وهناك من لا يريد شيئا، الا ما تريده سوريا منه!
وقبل أن نغادر ونقفل هذه المقارنة، العابرة، لا بد من الاشارة الى أن المرويات التاريخية أشارت، وبكثير من التقدير الى رفض الخليفة عثمان القتال ضد المحاصرين، ومنعه إشهار السلاح ضد المحاصرين، ولما طلب منه عبد الله بن الزبير أن يقاتل الخارجين، قال عثمان: لا والله لا أقاتلهم أبداً. فعل ذلك من أجل عدم تفريق laquo;أمة محمدraquo;.
ويفعل الرئيس السنيورة حسنا، لو استعاد هذه الروح، وألح، على الجمهور المضاد لجمهور حزب الله، أن لا يقتات على العصبية السنية، لأن التعصب الطائفي كله قبيح ومقيت، فليت السنيورة يطلب من جمهوره الهدوء، والارتقاء الاخلاقي، وفي نفس الوقت الصمود، فهذا هو موقع القوة الاخلاقية الحقيقية، من أجل ضمان إبقاء غيلان الحرب الاهلية الشوهاء في كهوفها...
أما جماعة حزب الله، والجنرال laquo;المتفاهمraquo; عون، فالحق أنه ليست القضية في قدسية حكومة السنيورة، او حصانتها من العزل والذهاب، فهذه حكومة كأي حكومة سابقة، ولا حتى في حق الحزب laquo;الإلهيraquo; في الحكومة او توجيهها، وفق اصول اللعبة، وليس بعرض القوة والتلويح بطرف السكين، بل ان القضية حتى ليست في طمع الجنرال بكرسي رئاسة الجمهورية laquo;المخلعraquo; أصلا، القضية إذن هي في هذه الروح laquo;الاستباحيةraquo; للمواضعات اللبنانية، هذه الروح، التي يتصف بها حزب الله الآن، هذه الروح التي نشأ عليها البلد منذ الميثاق الوطني بين رياض الصلح وبشارة الخوري، عبر التوافق على توزيع المناصب السيادية على الطوائف الاساسية، فرئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة الوزراء للسنة والبرلمان للشيعة، الميثاق أيضا اعتمد على أن السياسة الداخلية ترتكز على laquo;حفظ التوازن بين الطوائفraquo;، رغم أن بعض المؤرخين الاجتماعيين اللبنانيين يرى أن: laquo;حفظ التوازن الطائفي هذا، لم يكن إلا واجهة لحفظ توازن اجتماعي بين الطبقات القديمة والجديدةraquo;، حسبما يرى د. فؤاد شاهين في كتابه (الطائفية في لبنان ص 184) مؤكدا على أن روح الطائفية السياسية هذه، للاسف، تسربت الى بنية الدولة اللبنانية في دستورها في اكثر من مادة، الأمر الذي يعني أن لبنان هو بلد توافق طوائف وليس بلد ديموقراطية بالمعنى الاساسي.
على كل حال، فالطائفية في لبنان، لم تكن دوما بفعل تحريض الخارج، أو laquo;حروب الاخرين على ارض لبنانraquo;، حسب المعزوفة اللبنانية التحليلية الشهيرة، فالتاريخ يحدثنا، مثلا، أنه في عهد حملة ابراهيم باشا على بلاد الشام 1833 لمحاولة ملء الفراغ العثماني، وحينما حاول ضرب الاقطاع الدرزي في الجبل، تحالف ضده هذا الاقطاع الدرزي بحجة أن ابراهيم باشا يدعم نصارى لبنان، أي أننا هنا امام محاولة خارجية تنتهج laquo;اللاطائفيةraquo;، ظاهريا على الاقل، في مواجهة مقاومة لبنانية داخلية تعتمد الطائفية، إذن فالطائفية اسلوب لبناني قديم! يشتغل وقت الحاجة بمحركات داخلية.
لكن، ورغم هذا كله، فهذا واقع ومواضعة لبنانية، بعجرها وبجرها، تم laquo;ترويضهraquo; بالوصول إلى ميثاق الصلح والخوري. وحزب الله الآن، استباح هذه المواضعات كلها، وليته استباحها من اجل فرض واقع أرقى وأعلى واكثر تحليقا فوق الطائفية، وتحلى بروح laquo;بسماركيةraquo; جامعة، ولكن، ويا للمفارقة، حزب الله استباح هذا التقليد السياسي اللبناني، من أجل ضرب حالة التوافق الطائفي، لتنقلب إلى حالة laquo;إخضاعraquo; طائفي سياسي للجميع.
مصير السنيورة وحكومته الآن، وتصرف الثوار المحاصرين للسراي، قد يكونان مقدمة لفتنة كبرى تضرب عميقا في المشاعر والخيال وفكرة الوطنية الجامعة، في أسوأ الاحوال، أو إذا ما نجا السنيورة من laquo;سيفraquo; سودان الذي مزق جسد عثمان النحيل، يكون الامر إعادة laquo;معدلةraquo; لكارثة عثمان والدار... وفي الحالين، الصورة سوداء، في المنطقة كلها ولبنان ليس الا نموذجا يختزل الصورة، ومن يعش ير...
التعليقات