الجمعة08 ديسمبر2006
د. عصام سليمان
بلغت الأزمة السياسية في لبنان حداً خطيراً، من أهم مظاهره، ليس التحرك الشيعي في الشارع وحسب، إنما تخبط معظم السياسيين، على اختلاف انتماءاتهم، في اللامنطق إن لجهة طروحاتهم بشأن المأزق الدستوري الذي وصلت اليه البلاد، أو لجهة ممارساتهم.
إن النظام البرلماني اللبناني الذي يقوم على الجمع بين القواعد المعمول بها في الأنظمة البرلمانية ومبدأ المشاركة الطوائفية في السلطة، خرج في إطار الممارسة عن المنطق الذي ينبغي أن يسلكه لكي تؤدي المؤسسات الدستورية، بما فيها مجلس الوزراء، دورها بانتظام. فإذا ما تناولنا قضية اتخاذ القرار في مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين، في القضايا الأساسية التي نص عليها الدستور، وهو مبدأ معتمد في جميع الأنظمة الديمقراطية، والغاية منه عدم هيمنة فئة على قرارات مجلس الوزراء في هذه القضايا، وبالنسبة للبنان عدم هيمنة تكتل طائفي معين، خاصة أن المقاعد في مجلس الوزراء موزعة مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. ومن جهة ثانية عدم إعطاء حق نقض قرارات مجلس الوزراء لأية فئة أو طائفة لأن ذلك يشل عمله. فأكثرية الثلثين تشكل ضمانة في مواجهة الهيمنة على قرارات مجلس الوزراء، وفي مواجهة عرقلة أدائه في الوقت نفسه.
مبدأ أكثرية الثلثين، خرج تحت تأثير الاستقطاب السياسي الحاد وأزمة الثقة بين الأطراف المشاركة في الحكومة عن المنطق الذي قضى باعتماده، فتحول من ضمانة الى مشكلة، فالأكثرية هيمنت عملياً على قرارات مجلس الوزراء بحجة أنها أكثرية في الحكومة وفي مجلس النواب. والطرف الذي كان مشاركاً في الحكومة، والمتمثل بالتحالف الشيعي (أمل وحزب الله)، وبحجة المشاركة، مارس عملياً النقض، وتركت استقالة وزرائه من الحكومة علامة استفهام كبيرة حول شرعيتها الدستورية.
استمر اللامنطق مستبداً في الطروحات والممارسة، فالأكثرية (حركة 14 آذار/ مارس) اعتبرت ان استقالة وزراء الشيعة غير مبتوتة لأنه لم يصدر مرسوم بقبولها، وقد رفضها رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، وان اجتماعات مجلس الوزراء بغياب الوزراء المستقيلين دستورية وشرعية، لأنها عقدت بحضور الأكثرية التي نص عليها الدستور. وقد فات الأكثرية انه لا يستطيع أحد إجبار الوزير على العودة عن استقالته، والإصرار عليها يعني انه مستقيل ولو لم يصدر مرسوم بقبولها.
كما فاتهم انه لا يمكن تفسير النصوص الدستورية المتعلقة بآليات عمل النظام البرلماني في لبنان إلا في إطار علاقتها بالميثاق الوطني، الذي أصبح بعد اتفاق الطائف جزءاً لا يتجزأ من الدستور، فمقدمة الدستور تضمنت مبادئ الميثاق الوطني، وللمواد الميثاقية في الدستور الأولوية على المواد المتعلقة بالآليات. وقد نص الدستور في المادة (95) على تمثيل الطوائف في الحكومة تمثيلاً عادلاً، كما جاء في مقدمة الدستور أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. وهذا الميثاق يُعبر عنه عملياً في المشاركة الطوائفية في السلطة، وبنوع خاص في مجلس الوزراء. لذلك لا يمكن اعتبار الحكومة شرعية ودستورية على الرغم من استقالة الوزراء الشيعة. أما دعوة الأكثرية لطرح الثقة بالحكومة في المجلس من أجل تأكيد شرعيتها فيأتي خارج المنطق لأنه يتجاهل قضية المشاركة الطوائفية في السلطة.
واللامنطق في الطروحات لم يقتصر على الأكثرية إنما شمل بعض المعارضة التي طالبت رئيس الجمهورية اميل لحود، بإصدار مرسوم إقالة الحكومة، خاصة انه اعتبرها فاقدة للشرعية، وقد فات هؤلاء انه، بعد اتفاق الطائف والتعديلات الدستورية بموجبه، لم يعد لرئيس الجمهورية صلاحية إقالة الحكومة، وقد نص الدستور على الحالات التي تعتبر فيها الحكومة مستقيلة وليس من بينها الحالة التي تمر بها الحكومة الحالية.
وقبل ذلك برز اللامنطق في رفض شرعية رئيس الجمهورية، الممددة ولايته في العام ،2004 بموجب تعديل دستوري، أقرته أكثرية نيابية وفق الآلية التي نص عليها الدستور، ووفق منطق يتناقض مع المنطق الذي تضمنته المادة التي تحدد ولاية رئيس الجمهورية بست سنوات غير قابلة للتجديد أو التمديد. فتعديل الدستور من أجل التمديد جاء مخالفاً للمنطق، ورفض شرعية الرئيس بعد التعديل جاء مخالفاً للمنطق أيضاً، وبخاصة ان من رفضوا الشرعية هذه تعاملوا معها كأمر واقع إن لجهة توقيع الرئيس على مرسوم تشكيل الحكومة وسائر المراسيم، أو لجهة ترؤس جلسات مجلس الوزراء. واللامنطق برز في تصرفات رئيس الجمهورية نفسه الذي لم يترك مناسبة إلا وتهجم فيها على فريق الأكثرية ومن خلاله على الحكومة.
من ناحية أخرى، وفي إطار الجدل حول المحكمة ذات الطابع الدولي، يحاول البعض من فريق الأكثرية أن يأتي باجتهادات بهدف تجاوز المشكلة الناجمة عن امكانية عدم دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري المجلس الى عقد جلسة للبت في موضوع المحكمة، بحجة أن الحكومة التي أقرت نظامها فاقدة لشرعيتها الدستورية، اجتهادات ليست بمحلها لأن الدستور لم يأت على ذكر الدعوة الى عقد جلسات مجلس النواب، في حين أن النظام الداخلي للمجلس حصد حق الدعوة للجلسات برئيس المجلس.
هكذا يشهد اللامنطق في المواقف، ما يقود الى زيادة التأزم واشتداد المأزق، في وقت يتطلب فيه تسيير شؤون الحكم في لبنان الكثير من المنطق والحكمة والدراية، والترفع، وتقديم المصلحة الوطنية على أية مصلحة أخرى، وفك الارتباط بالقوى الخارجية، أو على الأقل عدم توظيف الصراعات الداخلية لمصالحها، كي لا يتحكم الخارج بالداخل ويصبح الوضع على حافة الهاوية.
* أستاذ في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية
التعليقات