الثلاثاء12 ديسمبر2006
نجم والي
إذا كان من الممكن الوثوق بما تقوله الإحصاءات الرسمية في بغداد، فإن عدد أرقام الموتى والجرحى الذين سقطوا ضحايا حوادث العنف في العراق، بما فيها العمليات الإنتحارية التي نفذها وينفذها الإرهابيون يومياً، قد فاقت الخيال في الفترة الأخيرة. من الناحية الأخرى، حتى إذا لم نصدق مصادر الدولة الرسمية، فإن الأرقام حتى وإن لم تشر إلى العدد الفعلي للضحايا الذين سقطوا يومياً في الشهرين الأخيرين، فإن الأرقام التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية في الفترة الزمنية الأخيرة، منذ بداية شهر رمضان المنصرم، في مطلع أكتوبر / تشرين الأول الماضي، وحتى يومنا هذا، عادلت (إن لم تفُق) في محصلتها، أرقام مجمل الضحايا الذين سقطوا في الشهور التسعة الأخرى المتبقية من السنة. ليست القضية الآن هي البحث بالعدد الفعلي للموتى، سواء أولئك الذين عثر أهاليهم quot;السعيدو الحظquot; على جثثهم في عنابر الموتى، أو سواء تعلق الأمر بالموتى أولئك، الذين لم يُعثر على جثة لهم، وفي أحسن الأحوال، تسلمهم ذووهم، على شكل أكياس بلاستيكية تحتوي على سائل لزج فقط، أو على شكل بقايا بشرية: رأس أو يد أو قدم، وُضعت في كيس طحين أو موز. كلا، ليس موضوع المقالة هو عدد القتلى، مثلما ليس موضوعها عدد الجرحى، فلكي يتحدث الإعلام والبشر عن قتلانا في العراق، ولكي تتصدر أخبارهم النشرات الإخبارية والصحف، ليس في العالم الخارجي وحسب، بل في محطات الإذاعة والتلفزيون والصحافة المحلية أيضاً، عليهم، أن يسقطوا قتلى جماعات. بكلمة واحدة، عليهم أن يموتوا بالآلاف، فلربما سيخرج إلى العلن سياسي عراقي من عيار رئيس الحكومة العراقية السابقة، إبراهيم الإشيقير، الملقب بالجعفري، تتجاوز أقدامه على الأقل عتبة القصر الذي حدد الأميركان له الإقامة به، ويتجاوز عتبه، متى أرادوا ذلك، لكي يعلن أمام مئات الكاميرات، مطمئناً عوائل القتلى، بأنه في الحقيقة يزف لهم بشرى موتهم، فهم حسب تفسيره quot;شهداء عند ربهم يرزقون، ثوابهم الجنة، ماتوا بسبب زيارتهم لأبي عبدالله الحسينquot;. الجعفري الذي فعل ذلك مرات، وأشهرها عندما تجاوز عدد القتلى الألف في حادثة جسر الكاظمية الشهيرة، في إحدى الزيارات الحسينية التقليدية للشيعة، عبر عن طريقة بالتفكير وسلوك مايزالان هما السائدين عند جميع الطبقة السياسية في العراق دون إستنثاء، الطبقة السياسية بكل توجهاتها وتياراتها: الدينية منها أو العلمانية، القومية منها أم القطرية، فهذه الطبقة التي جلست منتشية في المنطقة الخضراء، وتركت بقية البلاد بسكانها غنيمة مستباحة للمجرمين والقتلة وقطاع الطرق، تتصرف وكأن الموت اليومي الذي يحدث في العراق، يجري في أراضي الواق الواق، وكأن الحروب التي نشبت هناك هي quot;حروب فوق أراض بعيدةquot;. الطبقة هذه، التي تدعي أنها أُنتخبت quot;ديموقراطياًquot;، تستخدم الكلمة quot;الأتيكquot; هذه، على مقاسها، وفي أغلب الأحيان، مثل سلاح فتاك، تقتل عن طريق تشدقها بها كل من يعترض عليها، الطبقة هذه جميعها، وعلى إختلاف أيديولوجياتها إخترعت لنفسها عالماً quot;نظيفاًquot; أقرب للجنة، وكأن لسان حالها يقول: quot;لنا الجنة الأرضية وللآخرين جحيمهم الذي يستحقونهquot;. وكأن نجاحهم في الإنتخابات quot;الصوريةquot; تزكية لهم لكي يتمتعوا ببركات هذا العالم، بينما لا يحصل أولئك الذين quot;إنتخبوهمquot;، أو سمحوا لهم بأن يحكموا بإسمهم، إلا على القنابل الموقوتة والسيارات المفخخة والنفايات النووية والمزابل quot;الديموقراطيةquot;. هؤلاء السياسيون الذي حصنوا أنفسهم بمنطقهم الخاص، وفسروا السياسة بصفتها غنيمة سهلة، بقرة حلوباً، يتنافسون على حلبها بشهية ونهم، وبأسرع وقت ممكن، يصولون ويجولون في ليل العراق الدامي الطويل، وكأن البلاد إختصرت نفسها في بقعة واحدة وحسب: المنطقة الخضراء. هؤلاء السياسيون، لا شيء لديهم يقدمونه للناس في العراق غير مباركة الموت. وإذا كانت شهرة إبراهيم الجعفري، بسبب ماركته الخاصة به، وهو يخرج مرة أو مرتين في الأسبوع بمباركة أميركية، يعطي التصريحات الصحافية عند بوابة قصره الحكومي، يوزع بركاته على رعاياه، من الموتى والأحياء، لكن الذين سيموتون مباشرة، ما أن يدخل مجدداً قصره، فإن الساسة الذين ورثوه، أصبحت حتى هذه الخطوات القصيرة كثيرة عليهم. من كان يظن أن الجعفري خلق مدرسة ستسير على نهجه، تخرج من حين إلى آخر، تبشر أهالي القتلى، بسبب quot;الثواب الذي سيحصل عليه الشهداءquot;، سيخيب ظنه. لكن مهلاً، إبراهيم الجعفري خلق بالفعل مدرسة سارت على نهجه، لكن على نهجه السياحي، الذي عُرف به ، في مجال السفر إلى خارج البلاد عند تنقله على خطى أغنية عبدالحليم حافظ القديمة: quot;سواحquot;.
quot;سواحquot;، تلك هي الدمغة التي دمغت الحكومة quot;الديموقراطيةquot; أو الحكومة quot;المنتخبةquot; بها نفسها، وكأن الناس إنتخبوها، وذهبوا للمغامرة بحياتهم إلى صناديق الإقتراع، لكي يطلبوا منها أمراً واحداً وحسب، ان تعيد المجد لأغنية العندليب الأسمر، كما أطلق على نفسه ذات يوم، quot;سواحquot;، أينما شاؤوا، وقتما أرادوا، بغض النظر عن الظروف التي تمر بها البلاد والناس، وإن إنهدت البلاد جميعها على أهلها، بل لاضير أن يموت سكانها جميعاً. كلا، عليهم ألا يترددوا في القيام بعمل واحد وحسب: السفر. تلك هي الإحصائيات التي تهمنا في المقام الأول، علينا نحن أيضاً، التوقف عن إحصاء عدد قتلانا منذ اليوم، لكي يتسنى لنا الوقت، لأن نبدأ بإحصاء عدد سفرات سياسيينا! لنبدأ: فبينما كانت البلاد تغرق يوماً بعد يوم، وعلى مدى الشهرين المنصرمين، في الفوضى والإرهاب والموت، لجأت الطبقة السياسية quot;العراقيةquot; للبحث عن راحتها فوق أراض بعيدة. لمجرد ذكر مثال واحد، سنأخذ الأسبوعين الأخيرين من شهر أكتوبر تشرين الأول الماضي. فعلى مدى 14 يوماً فقط، سافر أكثر من ثلاثين سياسياً وأكثر على التوالي، وفي في نفس الوقت! ولو سمح لنا هؤلاء السياسيون، أن نطلق عليهم لقب quot;سياسيين بدرجة عاديةquot; لما تفاقم حجم المشكلة، لكن ماذا سنفعل، إذا ما أصرّوا هم على تسمية أنفسهم، بصفتهم رجال دولة من العيار الثقيل! عصبة quot;مهمةquot; من رجال دولة quot;من الدرجة الأولىquot; يسافرون في أسبوع واحد، فمن يدير البلاد إذن أيام غيابهم؟ هل يمكن تخيل حدوث ذلك في دولة quot;عصريةquot; تحترم نفسها، يحكمها سياسيون يحترمون أنفسهم؟ يحترمون المسؤولية التي أُلقيت على عاتقهم، خصوصاً إذا كان هؤلاء يدعون، بأنهم أنتخبوا quot;ديموقراطياًquot;؟ لكي لا نتحدث بالتجريد، سنقوم بإحصاء بسيط:
أولاً: الرئيس جلال طالباني سافر مع أربعة وزراء يثق بهم إلى العاصمة الفرنسية باريس، في رحلة توزعت على مرحلتين، الأولى رسمية، لمدة يومين، والأخرى رحلة quot;خاصةquot; لبقية أيام الأسبوع، ثانياً: طارق الهاشمي، نائب الرئيس طالباني، سافر في نفس الوقت إلى العاصمة الأردنية عمان مع مجموعة من الوزراء الذين يثق بهم، ثالثاً: نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع أو الأمن، أو التخطيط ..أو السفر (ربما)، برهم صالح سافر في نفس الأسبوع مع quot;فخامةquot; رئيس المجلس القومي للأمن القومي، موفق الربيعي ووزراء يثقان بهم إلى الكويت؟ رابعاً: نائب الرئيس الآخر، ما هو أسمه؟ لكن ما هي فائدة ذكر الاسم؟ فنائب الرئيس هذا سافر مع وزراء يثق بهم إلى مصر، خامساً: الناطق الرسمي بإسم الحكومة الموقرة، على الدباغ، ولكي تستعيد السوريالية مجدها إكتفى بالسفر إلى دبي، وكأن لسان حاله يقول، إذا كانت الحكومة مسافرة جميعها، فماذا تبقى لناطقها الرسمي، ولماذا لا يقوم هو الآخر بسياحته quot;الديموقراطيةquot;؟
الوحيد الذي بقي في تلك الايام، (قبل أن يبدأ رحلته هو الآخر مع بقية الوزراء الذين لم يسافروا، إلى تركيا هذه المرة)، دون نواب أو وزراء تقريباً، هو رئيس الحكومة، نوري المالكي، لكن المفارقة هي أنه عندما إستجاب لدعوة البرلمان له بالحضور مع وزير دفاعه، لكي يستجوبه البرلمان على خطته الأمنية الفاشلة التي جلبت الدمار والقتل أكثر، وليس كما كان مقدراً لها، أن تعيد الأمن للعاصمة بغداد، أعلن رئيس البرلمان quot;العراقيquot;، محمود المشهداني (هل هذا هو اسمه الصحيح؟)، عن إلغاء الجلسة المقررة، بسبب عدم إكتمال النصاب القانوني: فمن مجموع 295 نائباً في البرلمان، كما هو عدد أعضاء البرلمان، حضر الجلسة الإستنثائية تلك نحو 95 عضواً فقط، قرابة ثلث الأعضاء، لا أريد أن أكتب الجملة التي نطق بها لسان رئيس البرلمان، لأنها لا تليق برئيس برلمان دولة quot;محترمةquot;، والتي ستلوث قلمي بالتأكيد، أكتفي بالقول، أن رئيس برلمان مثله، يقول جملة، بمثل هذا العيار، جملة تحوي على كل ما تعنيه من صفات بصدد زملائه، الذين أنتخبوا مثله بنفس الطريقة quot;الديموقراطيةquot;. رئيس برلمان مثل هذا، الأحرى به تقديم إستقالته، لأن من يرأس، quot;كلاباًquot;، عليه أن يبحث quot;ديموقراطياًquot; بنفسه عن الصفة التي تليق به بصفته رئيس عصبة تضم quot;كلابquot;، كما نعت أعضاء البرلمان! ولأننا نعيش في بلاد مخربة مثل العراق، لكن بلاد quot;ديموقراطيةquot; على الأقل بعرف المشهداني وزملائه الذين يجولون يسوحون شرقاً وغرباً، بودنا أن نسأل السؤال البسيط: هل تلك الصفة، صفة الكلبية، تليق بسياسيي البرلمان فقط؟
التعليقات