حازم الأمين


في اللحظة الأولى التي يسمع فيها المرء عبارة laquo;المعارضة اللبنانيةraquo; لا يمكن له ان يستحضر حزب الله. عليه ان يمضي لحظات قبل ان يستدرك ان المعارضة هي حزب الله. فالجميع في لبنان يعرف ان لدى هذه laquo;المعارضةraquo; طاقات تفوق طاقة الدولة، أو السلطة. نحن لا نتحدث عن الطاقة الشعبية التي ربما تعادل فيها طرفا النزاع اللبناني، أو ربما فاق طرف طرفاً بنقاطٍ قليلة. لكننا نتحدث عن حزب اكبر من دولة، لا تتسع له قوانينها، ولا تضمه أطرها. والمشكلة ان هذا الحزب قرر في هذه المرحلة ترجمة حجمه هذا في المعادلة اللبنانية، وهي معادلة أضيق منه. ولكن ماذا يعني هذا؟

من الواضح ان الوظيفة الإقليمية للحزب والتي أبدى قدرات كبيرة أثناء أدائه لها، تراجعت بفعل القرار الدولي رقم 1701 الذي أعقب حرب تموز (يوليو). وهذه الوظيفة التي لم تكن تخلو من عمق داخلي، جعلت الحزب مكتفياً بالسياسة الداخلية بما هو ضامن لهذه الوظيفة. ثمة معادلة غريبة بعض الشيء هنا. كان حزب الله يمارس العمل السياسي الداخلي بهدف حماية سلاحه، ولم يكن يحمل السلاح ليشتغل بالسياسة. وهو أمر مخالف لمنطق العلاقة بين السلاح والعمل السياسي. السياسة تخدم السلاح بدل ان يخدمها.

الأرجح ان امراً تغير في هذه المعادلة. السياسة لم تعد تستطيع ان تقدم للسلاح ما كانت تقدمه، لسببين: الأول ان المعادلة الداخلية تغيرت بحيث جعلت من قضية السلاح محكاً دائماً لـ laquo;الحوارraquo; ولبعض الرقابة، وأدى الانسحاب السوري الى تفكيك شبكة الأمان الداخلية التي كانت بنيت على مدى عقود النفوذ السوري بهدف حماية الحزب داخلياً. والسبب الثاني هو ضبط وظيفة السلاح بالقرار 1701.

اذاً نحن اللبنانيين الآن أمام قوة كبيرة من دون وظيفة. قوة بقدرات مادية وعسكرية وشعبية تتلمس الآن طريقها الى المعادلة الداخلية. ليست ميليشيا كما يتهمها أطراف في قوى السلطة. الكثير الكثير من أوصاف الميليشيا لا تنطبق على حزب الله. فعندما انسحبت إسرائيل مثلاً من لبنان في 2000 وأخلت المنطقة الحدودية لنفوذ الحزب لم يتصرف هذا الأخير على نحو ما تتصرف الميليشيات، ولم نسمع حوادث تذكر عن عمليات انتقام كان متوقعاً جداً ان تحصل. ولم يشهر الحزب نفوذه على نحو ما تشهر الميليشيات نفوذها. كان السلطة الفعلية ولكن غير المرئية، وكاتب هذه السطور من قرية حدودية جنوبية، ولطالما أمضى أياماً هناك لكنه لم يرَ يوماً مسلحاً واحداً من حزب الله على رغم يقين الجميع ان هذا الحزب مبثوث في كل مكان في تلك المنطقة. وليس هذا طبعاً مديحاً للحزب بقدر ما هو محاولة لتوصيف نوع قوته ونفوذه.

اذاً يسعى حزب الله اليوم الى نقل قوته الى الساحة الداخلية، من خلال تحركه الأخير. وقوة من هذا النوع اذا قررت ذلك، لن يكون طموحها حكومة وحدة وطنية. ويعزز هذا الاعتقاد المستوى المنقطع النظير الذي رفعه حزب الله في مواجهة خصومه وشركائه في حكومة الوحدة الوطنية المنشودة. اذ يشعر معظم اللبنانيون بأن إمكان تعايش القوى المتنازعة في لبنان اليوم صار صعباً جداً بفعل درجة التحريض والاحتقان، ولحزب الله نصيب كبير في توزيع المسؤولية عما آلت اليه الأمور. والأرجح اننا حيال دفع للأوضاع باتجاه البحث عن تسوية جديدة تشمل إعادة النظر في حصص الطوائف ومواقعها في الدولة، وتقويم للأحجام من خلال احتساب نقاط القوة والضعف للجماعات التي تشترك في تلك التسوية.

لا يبدو ان حزب الله شاعر بأن الصيغة اللبنانية منصفة، اذا أخذنا في الاعتبار حجمه وقوته، وما يجري اليوم في الشارع اللبناني هو صورة من صور عدم الرضا هذا، والأرجح ان ما يجري سيتكرر بصيغ أخرى اذا ما تمكن اللبنانيون من تجاوز محنتهم الراهنة. علماً ان نقل الحزب ثقله الى الصعيد الداخلي يعوزه بعض التدقيق والنقاش، فالمنازعة غير متكافئة لأسباب ليست شعبية كما تدعي المعارضة. السلاح عنصر وازن على رغم كل تطمينات الحزب وعلى رغم القناعة بأن استدراج حزب الله الى السلاح سيؤدي الى تحويله الى ميليشيا. اذاً على حزب الله لكي يقنع اللبنانيين بـ laquo;حسن نياتهraquo; وبأنه ساعٍ لموازنة حضوره بمستوى تمثيله في الدولة، وهو مطلب قد يكون محقاً، ان يتخلى عن عنصر تفوق بديهي هو السلاح، وعندها تقف الجماعات اللبنانية عارية الا من إحجامها الفعلية. ثم ان هذا التفوق يستدرج طموحات مشابهة صار من الممكن رصدها في مشاعر الجماعات الأخرى.

افتراض آخر لا بد من استحضاره في هذا السياق، ويتمثل في ان الجماعات اللبنانية الثلاث (الشيعة والسنة والمسيحيين) حين تباشر اعادة البحث بالصيغة اللبنانية آخذة في الاعتبار الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بلبنان، ستتدخل في منازعاتها حقيقة النقاط التي حققها التحالف السوري الإيراني بفعل التعثر الأميركي في العراق، وتفاقم النزاع الأهلي الفلسطيني وانسداد افق التسوية العربية الإسرائيلية، وهو ما سيترجم دعماً للموقع الشيعي في التسوية اللبنانية العتيدة. كما لن تتمكن هذه الجماعات اللبنانية خلال محاولتها انتاج تلك التسوية من اسقاط حقيقة قوة الموقع السني في المعادلة اللبنانية، وذلك ما سيكفله إضافة الى موقع هذه الطائفة الداخلي، العمق العربي وتقاطع المصالح بين الأحلاف الإقليمية.

انتاج التسوية الجديدة سيكون على حساب جماعة من الجماعات الثلاث. اقتطاع حصة من جماعة لإرضاء جماعتين متكافئتين. وعلى المسيحيين ان يباشروا البحث عن حاضنة تكفل حصتهم. الغرب لن يؤمن لهم تلك الحاضنة على نحو ما كان يؤمنها. الغرب لم يعد غرباً، وجاذبية المسيحيين في تراجع يتطلب الحد منه تعاملاً مختلفاً مع الوقائع.

الأرجح ان اكثر ما يناسب المسيحيين اليوم هو الإبقاء على الصيغة الراهنة، ومحاولة حمايتها من طموحات الجماعات الصاعدة. والا فإننا ننتظر من العماد ميشال عون اجابة عن تساؤل، خصوصاً انه المتحمس الأبرز في المعارضة لطرح الصيغة على النقاش مجدداً: كيف يمكن تجنيب المسيحيين خسارة جديدة؟