نجم والي
في حواراته الأخيرة لم يخف قاضي التحقيق الألماني، ديتليف ميليس (56 عاماً) قلقه من العيش تحت هاجس الترقب غيرالمريح، رغم إنتهاء مدة المهمة التي كلفته الأمم المتحدة بها لترؤس لجنة التحقيقات الخاصة بإغتيال الرئيس رفيق الحريري. في الأسبوع الماضي سلم ميليس رئاسة اللجنة لقاضي التحقيق البلجيكي الجديد، لكن من يقرأ الكلمات التي تحدث بها للصحافة بعد عودته إلى برلين مباشرة، وخاصة في اللقاء المطول لصحيفة شتيرن الألمانية، سيخرج بالإنطباع السريع أن قاضي التحقيق الألماني سيحتاج إلى وقت طويل لكي يعود لعيش حياة.
ربما نعرف تلك الحالة من ممثلي السينما، فالأسماء الكبيرة المعروفة في عالم السينما تصرح بأنها نادراً ما تجد راحة بعد الإنتهاء من تصوير فيلمها. أغلب هؤلاء يأخذون إجازة سريعة، من أجل أن يعيشوا حياة يومية بعيداً عن مشاغل العمل، لكي يصبح بمستطاعهم التهيؤ لدور جديد. لكن أين يذهب قاضي التحقيق عند الإنتهاء من مهمته، إذا كانت القضية التي دار ويدور حولها التحقيق من العيار الأكثر ثقلاً: إغتيال شخصية مثل الرئيس رفيق الحريري، أما الكواليس التي يجري فيها التحقيق، فدولة أو دول في منطقة ساخنة اسمها منطقة الشرق الأوسط؛ منطقة تشابكت فيها المصالح والأزمات والمافيات والديكتاتوريات، منطقة تصلح لأن تكون مسرحاً لكل ما يمكن تخيله، بإستثناء أن تكون مسرحاً لسير مجريات تحقيق قضائي في جريمة من هذا العيار تجري في جو ديموقراطي؟ (ولمعرفة معنى ما نقول، يكفي أن هذه المنطقة، هي الوحيدة في العالم، التي لم تنتج أدباً بوليسياً، لأن الأدب البوليسي تكتبه يومياً السلطات الحاكمة في هذه الدول، عن طريق رجال مخابراتها وشرطتها وسياسيها وميليشياتها وأحزابها الحاكمة). أين سيذهب قاضي التحقيق إذن إذا كان على ذمة التحقيق يتعلق مصير دول وسياسات قادمة وتغيير خرائط وأنظمة يخنقها هواء الديموقراطية؟
لا يعرف ميليس ذلك لوحده، إنما تعرفه الأمم المتحدة ودولته أيضاً. في لبنان، كان فريق الحماية الذي وضعته له الأمم المتحدة يضم عشرين إلى ثلاثين عسكرياً من الجيش اللبناني، وعندما أراد الإنعتاق من روتين الحماية ذات يوم، وقرر أن يأخذ إجازة قصيرة، لبضعة أيام، تفاجأ ميليس، عند نزوله في مطار الدولة التي خطط لقضاء الإجازة فيها، بإنتظار مصفحتين له، لا يخترقهما الرصاص وأفراد حماية أصروا على مرافقته إلى مكان قضاء الإجازة. تلك هي أوامر الأمم المتحدة، يقول ميليس، وعندما إعترض على ذلك، قيل له، quot;بسبب مهمة التحقيق في قضية إغتيال الرئيس الحريري في لبنان، إتخذ العمل الذي يقوم به مع لجنته، طابعاً سياسياً، سواء شاء أم أبىquot;. فبالنسبة للبعض، أصبحت لجنة الأمم المتحدة وشخصية ميليس ذاتها تمثل مُثلاً وقيماً غريبة. وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول أصبح الهجوم على الأهداف التي تمثل رمزاً معيناً يأتي في المقدمة. على هذا الأساس لم يكن من المستبعد أن يتعرض ميليس إلى محاولة إغتيال. ليس في مكان الإجازة، إنما في ألمانيا أيضاً. وليس من الغريب أن تتحول حياة المدعي العام، الذي أصبح اليوم أشهر قاضي تحقيق في العالم، بعد قاضي التحقيق الإسباني، بالتزار غاراسون، بصورة راديكالية عما كانت عليه قبل ذهابه إلى لبنان.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يشرف فيها ميليس شخصياً على تحقيقات لها علاقة بجرائم سياسية. القضية الكبرى الأولى كانت التحقيقات المتعلقة بحادثة الإعتداء بالتفجير على الديسكوتيك quot;لابيلquot; في برلين، والذي سقط ضحيته مجموعة من الجنود الأميركان. في ذلك الوقت، إتهم الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان ليبيا بأنها وراء الحادث، الأمر الذي جعله يأمر بقصف طرابلس. ميليس دخل في حينه في نزاع مع الأميركان، وقال لهم صراحة: رئيسكم يدّعي أن عندكم أدلة تثبت تورط ليبيا، لماذا لا تقدمون لنا هذه الأدلة إذن؟ رغم ذلك لم تحصل برلين على شيء، لكن ذلك لم يثن ميليس عن عزمه بالإعتماد على نفسه لكي يأخذ التحقيق مجراه. لكن بعد ثلاثة سنوات كان عليهم إلغاء ملف القضية. لم يكن في أيديهم ما يساعد على رفع دعوى قضائية ضد ليبيا. لغاية سقوط جدار برلين وانتقال أحد عملاء مخابرات ألمانيا الشرقية، (المخابرات الشيوعية: الشتازي)، للعمل مع مخابرات ألمانيا الإتحادية، وقيامه بتسليم ميليس وثائق قديمة، تثبت تورط سفارة ليبيا في برلين الشرقية في تفجير الديسكوتيك في برلين الغربية. وعندما صدرت الأحكام القضائية عام 2001 ضد المتهمين، كانت القضية قد شغلت 15 عاماً من إهتمام ميليس و4 سنوات من إهتمام المحكمة.
في القضية الثانية دخل ميليس في نزاع مع الحكومة السورية، بسبب حادثة الإعتداء على القنصلية الفرنسية في برلين الغربية، وإن كان هذه المرة بصورة غير مباشرة، وليس كما في التحقيقات المتعلقة بإغتيال الرئيس رفيق الحريري. آنذاك كان المتهمان هما: يوهانيس فانريش، أدلاتوس والمطلوب رقم واحد عالمياً: الفنزويلي كارلوس. اصر ميليس في حينه على فرضيته التي تقول: إن المذكورين لم يفلحا في تنفيذ الهجوم على القنصلية الفرنسية دون دعم طرف ثالث: دعم السفارة السورية في برلين الشرقية. وكما في القضية الأولى، عثر ميليس على الأدلة التي بحث عنها في ملفات الشتازي بعد سقوط الجدار، ليتعرف على أسماء الذي ساعدوا بتنفيذ حادثة الهجوم عام 1983. عام 1993 توصل الألمان إلى مكان كارلوس: في سوريا. وحسب قول ميليس، منحته سوريا مكاناً آمناً علي أراضيها في ذلك الوقت. تصريحات ميليس في ذلك الوقت أثارت عاصفة في ألمانيا، لأن الحكومة الألمانية لم تشأ كشف مكان إختفاء كارلوس، لم تكن لها مصلحة بتعكير علاقاتها الديبلوماسية أو تعاونها المخابراتي مع الحكومة السورية.
لكن مهما بدت تلك القضيتان مثيرتين للإهتمام، من الممكن تتبعهما وقراءتهما مثل روايتين بوليسيتين. إلا أن القضية التي تظل أكثر إهتماماً بالنسبة لميليس، كما قال صراحة، هي قضية التحقيقات الجارية بما يتعلق بجريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري. فبغض النظر عن أن القضية تتعلق هنا بعمل إجرامي مدبر راحت ضحيته شخصية ذات وزن كبير ليس في لبنان فقط (وليس في الشرق الأوسط وحسب)، إنما في العالم أيضاً، وأن المهمة التي كان عليه تنفيذها حتى كشف الاصابع الحقيقية التي وقفت وراء الجريمة، وتقديم المسؤولين بهذا الشكل للقضاء، لكي ينالوا العقاب الذي يستحقونه، يمكن أن تقود إلى عواصف سياسية تغير خريطة المنطقة. إلا أن الجانب الإنساني أو الشخصي في القضية الذي عاشه ميليس إختلف تماماً عما عاشه في القضايا التي حقق فيها سابقاً. فهو هذه المرة لم يستطع أن يخفي مشاعر الحزن والأسف في حديثه عن فقدان أولئك الذين عرفهم شخصياً، وكنّ لهم إحتراماً خاصاً، قُتلوا على أثر التحقيقات. ذلك هو الجانب الدراماتيكي quot;السينمائيquot; من القضية، كما رأينا حالات مشابهة في السينما. يحقق المدعي العام مع شخص، تتم تصفيته بعد ذلك.
ذلك ما حدث للصحافي اللبناني جبران تويني. فقبل 24 ساعة من تقديم ميليس تقريره للأمم المتحدة، قُتل الناشر والصحافي، صاحب جريدة النهار جبران تويني عن طريق تفجير سيارة مفخخة. ميليس تحدث للمرة الأولى بشكل شخصي في حياته، قال quot;عن طريق قتل جبران تويني اراد مرتكبو الجريمة إزالة أحد أكبر الأصوات الناقدة لسوريا. وفي نفس الوقت إستطاع هؤلاء إثارة البلبلة بين أوساط السياسيين والصحافيين بقوة. جريمة الإغتيال أرجعت لبنان شهوراً للوراءquot;. فضلاً عن ذلك فإن مقتل تويني هزّ ميليس، بسبب معرفته الشخصية له. وهذا ما قاله ميليس بالحرف الواحد quot;خلال عملي الوظيفي تحريت عن عمليات إغتيال عديدة. لكن حتى الآن لم يُقتل أحد عرفته شخصياً. صحيح أن تويني كان أحد الـ 500 شاهد الذين حققت معهم شخصياً، لكنني وجدته شخصاً ودوداً (لطيفاً) جداً.quot;. كان جبران تويني أحد أكثر ثلاثة أشخاص مطلوبين في لبنان. وكان إسمه حسب الشهود الذين تحدثوا عن قوائم الموت، يتصدر القائمة، وعندما علم ميليس بذلك، أوصل الخبر لتويني مباشرة، عن طريق بعض اللبنانيين. ذلك ما جعل تويني يذهب إلى باريس مع سعد الحريري، الذي كان هو الآخر على القائمة. وكم يأسف ميليس من عودته غير المتوقعة بالنسبة له بعد شهور. وعندما سمع بخبر الإغتيال، صباحاً أثناء الفطور في نيويورك، شعر بالصدمة. ولكن بعد دقائق، وقبل أن يقدم ميليس تقريره للأمم المتحدة، ساءل نفسه: لماذا إرتكب المجرمون هذه الجريمة؟ لماذا تويني؟ ليتوصل إلى النتيجة المنطقية: quot;إغتيال تويني كان رسالة للجنة التحقيق: بإمكانك أن تكتب ما تشاء من التقارير، كما تشاء، إلا إننا سنستمر بعملنا!quot;. منذ ذلك الوقت، يعيش ميليس أكثر تحت الحماية، أو كما يقول: quot;رجال حمايتي يحمونني، بهذا الشكل أو ذاك. لكن رغم ذلك أشعر بعدم الراحة، بالعيش تحت هاجس الترقب غير المريح. كلما توقف شاحنة وقود في بيروت عند حافة الشارع، كلما سارعت بالإبتعاد سريعاً عن المكان، أتساءل، ما إذا كانت الشاحنة ستنفجر حالاً؟quot; بالفعل هذا الشعور بعدم الراحة ظل يصاحب قاضي التحقيق، حتى في برلين، رغم أن شاحنات الوقود التي تقف هنا عند حافة الشارع تحمل رقماً ألمانياً، وليس لبنانياً.
المعلومات الواردة في السطور أعلاه مأخوذة من حوارات عدة أجريت في الصحافة الألمانية مع ديتليف ميليس وخصوصاً الحوار المطول الذي أجراه الصحافي الألماني أوليفر شروم (الذي كان ملازمه في بيروت وهو بصدد اصدار كتاب عن التحقيقات التي أجراها المحقق الألماني في بيروت) لمجلة شتيرن عدد 19 ـ 1 ـ 2006.
عن المستقبل.
التعليقات