الخميس: 2006.04.06
رياض نعسان آغا (وزير الثقافة السوري ):
يصعب تجاوزه
تودع سوريا اليوم علماً من أعلامها الكبار، قدم للأدب العربي ملحمة أدبية ضخمة وسيرة ذاتية مليئة بالنضال، فقد ملأ القرن العشرين إبداعاً غنياً في القصة والرواية، وكان رجل سياسة، فقد شغل العديد من المناصب الحكومية، واختص بتقديم تجربة الريف السوري، وعاصر بعمق الأحداث الكبيرة فقد كتب عن نكبة فلسطين مثلما
كتب عن حرب أكتوبر. كان العجيلي، رحمه الله، طبيباً يفتح قلبه وعيادته للناس ويعالج أمراضهم الجسدية مثلما عالج أرواحهم في أدبه. وكان قريباً من الناس جميعاً مشهوراً بعمق صداقاته وعلاقاته الإنسانية مما حقق له انسجاماً عظيماً بين السلوك الشخصي والقيم الأدبية النبيلة التي يقدمها عبر إبداعه. وسيبقى العجيلي في ذاكرة الأجيال لأنه تمكّن من أن يقدم لها إبداعاً يصعب تجاوزه، فقد كان يعاني آلام الناس، فلا يسأل في تعبيره عنها أي المدارس النقدية سيتبع، فهو الذي يؤسس المنهج، وهو الذي يبتدع الأسلوب. وقد عمل في الصحافة فكتب في المقالة فنوناً متعددة من ألوان الحديث محققاً تواصلاً دؤوباً مع القراء، وكان حريصاً على مبادئ أمته حاملاً لقيمها مثلما كان معبّراً عن وجدانها. رحم الله فقيدنا الذي سننتظر طويلاً حتى تنجب الثقافة العربية مبدعاً بوزنه.
حنا مينه:
سبق جيله
المرحوم عبد السلام العجيلي، الروائي وكاتب القصة القصيرة وأدب الرحلات وكثير من العطاءات الأدبية والفكرية الشيقة والمنضرة بأسلوبه العربي السلس والرنّان صفاء وقدرة مشوفة ومنضّرة بالتعبير الفكري العميق. إن المرحوم العجيلي من جيل سبق جيله، وكان وزيراً وكان نائباً في البرلمان في الخمسينيات وما قبلها، وقد كان التعارض بيننا في السنوات الأخيرة من عمره من المصادفات التي تُذكر. ومن المصادفات الغريبة والشيقة أنني كنت عام 1967 بعد غياب في المنفى لمدة ثماني سنوات وتزيد، في اللجنة التأسيسية التي كان يرأسها المرحوم سليمان الخش ذكرت اسم العجيلي، فرد عليّ: أنت اليساري وممثل اليساريين تذكر العجيلي؟! فأجبت: أنا لا أمثل اليساري، ولم يفوضني اليساريون للكلام باسمهم، أنا أتكلم باسمي وأقول لك؛ عبد السلام العجيلي ليس خائناً للوطن، ولا لشعبه، وإذا كنا نختلف معه في الأفكار، فليس معنى هذا أن نفتري عليه. عبد السلام العجيلي كان كبيراً ولم يخن وطنه، أو شعبه، والاختلاف في الآراء مطلوب جداً لكي تتفتح مئة زهرة. كان هذا في بداية الثمانينيات، وبعد ذلك سمع فقيدنا الكبير الدكتور العجيلي بما وقع وجاء إليّ في كافيتيريا الشام وقبّلني وعانقني وعانقته بحرارة.
وعندما نال وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة في الدورة الثانية والثالثة، قابلته في كافيتيريا الشام وعانقته مهنّئاً بالجائزة التي هو أهل لها. رحم الله الصديق الذي هو أحد أعمدة الفكر في سوريا، وليكن في رحيله عنّا قد ارتقى إلى سدرة المنتهى. مع شعورنا، نحن الأدباء في سوريا، بأن أحد أعلام
الأدب قد غاب أيضاً بعد غياب الكبير محمد الماغوط الذي فقدناه.
أسأل المولى العليّ القدير أن يرتّب نفسه مع الأبرار والصالحين. lt;يا دارجاً في الخلود ضميرَه، صلّتْ عليك الرفقةُ الأبرارُgt;.
شوقي بغدادي:
نجم المجالس
مرة أخرى مع الموت، وخلال أيام؛ يجب أن أتحمل موت الماغوط ثم موت عبد السلام العجيلي. قصتنا مع العجيلي تختلف عن نزار قباني مثلاً أو الماغوط، فإذا كنا على خلاف في تلك السنوات مع المذكوريْن فقد كان العجيلي معلماً قريباً إلى القلب والفكر. استطاع أن يكتسب ثقة من كانوا يسمون أهل اليسار وأهل اليمين على السواء، فقد أحس الجميع خلال مجموعته القصصية الأولى lt;بنت الساحرةgt; أنهم أمام أدب جديد رائد، ومع الزمن تكرّس هذا الاسم، روائياً وكاتب مقالة ومقامة ساخرة، بل كشاعر رومانسي أيضاً، وياما جلسنا في الخمسينات وتبادلنا السمر حول شعر الحب والطبيعة في حين كنا مشغولين في النهار بشعر المقاومة والثورة والعنف. الدروس التي تعلمناها من العجيلي أكثر من أن تحصى. أنا شخصياً أستطيع القول إنه نبهني لأول مرة إلى ما يسمونه الآن الواقعية السحرية أو أدب الفانتازيا عموماً، ومعه قدّرتُ أكثر الأدب الذي يفوح برائحة البيئة المحلية ويغدو في الوقت ذاته عالميا. وفي الجلسات الطوال في المقهى أو النادي، أو بيوت الأصدقاء نأكل ونشرب ونضحك ونسخر ونتألم كان العجيلي دائماً نجم هذه المجالس، حتى بعد أن أوغل في العمر فلم تستطع الشيخوخة أن تمنع روحه المرحة ونكهته الحلوة في الحديث، ولهذا ظل مجلسه فارغاً لا يملأه أحد إلا هو. ماذا أتذكر الآن؟ وما أكثر الذكريات وما أمرّها، لقد غلَبَنا على أمرنا الموت، فوا حسرتاه أن يتحول ربيع هذا العام إلى مهرجان للموت. مع السلامة يا عبد السلام، سلامة الذكرى، وسلامة الروح، في زمن رديء لا يطاق.
وليد إخلاصي:
جوهرة البداوة
طالما راهنتُ على أن تحتفل الثقافة العربية والسورية منها ببلوغ العجيلي قرناً من العمر، ولم يكن في الحسبان أن يغدرنا الزمن ليرحل عنا قبل أن نكسب الرهان.
عبد السلام العجيلي جوهرة البداوة المشعة، وقنديل الحكاية المضيء، الشيخ الجميل، فارس النبالة، شدّ الرحال ومضى بعيداً عن الأرض والعيون ليستقر في عمق ذاكرة الإبداع المعاصر الذي تأهل منذ البداية أن يكون من أهلها.
لم أفقد أخاً كبيراً، أو طبيباً إنسانياً، أو حكواتياً من طراز فريد فحسب، بل إننا فقدنا عبد السلام العجيلي، وهذا يكفي كي يكون حزننا الصادق نابعاً من الأحشاء، وإذا كانت قبيلة الإبداع الأدبي قد أجمعت على مشيخة واختارت العجيلي شيخاً لها، فإن هذا الإجماع دليل على أهميتها في حياتنا المعاصرة وفي ثقافتنا أيضاً، وإذا كان لي من اعتزاز بصداقة جمعتني مع عدد من بناة الإبداع السوري فإنه يبدأ بصداقة العجيلي التي امتدت لأكثر من أربعة عقود كان فيها أخاً ورمزاً لي في تلاحم الموهبة مع الصدق والارتباط بالوطن. الحق أقول إن العجيلي كان رمزاً قليل الانتشار وذلك في عقده للزواج الشرعي بين الحكاية والقصة المعاصرة، بل إنه من قلة من الكتاب الذين جعلوا من المحاضرة فناً قائماً بذاته، قد لا يشابهه فيه إلا العدد القليل، لقد كان العجيلي في حكاياته المتعددة الوجوه مؤسساً فاعلاً لبنية الأدب العربي الحديث، وكان واحداً من خير من ربطوا تاريخ الإبداع بمستقبله، ولنقل إنهم نسجوا خيوط التاريخ بالجغرافيا البيئية والإنسانية. خلاصة القول؛ سيكون في حزننا أننا نقدّر رموزنا المبدعة دون استعداد لتقبّل حقيقة الموت بهدوء ويسر. إلا أن الرضى بما قُسم هو الذي سيتبقى لنا.
خيري الذهبي:
كما يعلق العطر
إذا ما ذُكر البارودي وشوقي وحافظ ابراهيم فإنهم يُذكرون بكل إجلال لأنهم كانوا الجسر الشعري ما بين ماض عتيق للشعر العربي توقف عن العطاء لعدة قرون حتى جاؤوا فكانوا الجسر للحركة الشعرية الحديثة المساوِقة لحركة الشعر العالمية، وإذا ما ذُكر العجيلي ويحيى حقي فإنهما يذكران بكل إجلال ومحبة جسراً رائعاً ما بين
الحكائين العرب العظام، الذين ألفوا lt;ألف ليلة وليلةgt; وlt;المقاماتgt; ووضعوا اللبنات الكبرى للسرد العربي، وما بين السرد العربي الحديث، مناطح الآداب العالمية دون خجل.
إذا ما ذُكر العجيلي ذُكرت القصص السورية الأولى في سحرها وجذبها واصطناع قارئ جديد لفن انقطع ما بينه وما بين متلقيه منذ قرون، إذا ما ذُكر العجيلي ذُكرت lt;بنت الساحرةgt; وlt;قناديل إشبيليةgt;، وذُكرت تلك الأجواء الحميمة المائجة بين الشعر في شعريته الخالصة التي تعلَق في الوجدان كما يعلق العطر في الثوب السوري الخشن.
وحين قرنتُ العجيلي بيحيى حقي المصري فلأني لم أستطع أن أرى له مثيلاً في جيله في الكتابة الحنون والشعر المتماوج بين السطور وبين الحس الكامل بالمسؤولية عن جيل وفن لا بد أن نضع له الأساس لدخول العصر.
عبد السلام العجيلي كان أمة لوحده كما كان يحيى حقي، كانا أمة في كتابتهما، وأمة في الشكل الذي اختاراه لكتاباتهما، وأمة لن تنساها الأجيال التالية الذين يدينون بالكثير لهذا الجسر الذي سنذكره طويلاً.
إبراهيم صموئيل:
الكتابة بلا جدران
إذا كانت قد ناءت أرواحنا وكواهلنا برحيل تلك الرابية الشعرية الخضراء: محمد الماغوط... فها هو القدر يسقينا فوق شقائنا، من دون توقف لالتقاط أنفاسنا برحيل رابية خضراء أخرى: عبد السلام العجيلي.
ما كنت، ولا كان لأصدقائي من الذين تعلموا كتابة القصة على يديه، أن نناديه سوى: يا معلم. فقد كان معلماً لنا جميعاً ومعه كوكبة من منارات القصة القصيرة في سوريا: حسيب كيالي، سعيد حورانية، شوقي بغدادي، وليس فحسب أبداً.
أحار، كيف لي بعد أن أتابع الطريق والمنارات تذبل وتغيب. صحيح أنهم شقوا الطريق لنا، وسمعونا، وتلوا علينا مفردات القصص والحياة والمعنى، لكننا، حتى لو تعلمنا هذا الفن الصعب، فإن من المرّ والموجع أن لا تستند الكتابة إلى جدران شامخة وقوية مثلهم. سنكتب بعد الآن بلا جدران. لم يبق لنا إلا ما كتبوه، نقرأهم لا نتذكرهم، أحياء كانوا أم راحلين، بل لنعاود شد قاماتنا، وضبط أقلامنا، والغوص ثانية وعاشرة في هموم وطن شقي ما كان له إلى اليوم أن يشفى.
ممدوح عزام:
حكواتي شامي
في قصص العجيلي، وهو قاص أولاً وأخيراً، على الرغم من أنف الرواية التي كتب فيها سبعة أعمال، ثمة ما يتجاوز دائما نطاق المعنى، فيمنح أعماله مادة البقاء، والتأثير. تلك هي قدرته الباهرة على اجتذاب القارئ، وتوليد المتعة، في نص حكائي تتوفر فيه جميع العناصر الضرورية الضامنة للاستمرار. فقصصه (وأجرؤ أن أقول lt;حكاياتهgt; ذلك أن عبد السلام العجيلي حكّاء ورث باقتدار سلالة مبدعي ألف ليلة وليلة) مشغولة بمهارة حكواتي شامي. وحبكته مشوقة، ترغم القارئ على المتابعة منذ بداية القص. ولا يعطي أجوبة على مسارات أحداث قصصه، فيما تظل نهاياته مفتوحة، أو إشكالية، تفسح المجال واسعاً للمشاركة في إعادة كتابة القصة، أو الإعداد
لنهاية تنسجم مع تجاربنا، أو الإجابة على الأسئلة الوجودية المقلقة التي تقدمها. أما السرد لديه فهو مغوٍ، وحاذق، يتلاعب بالأداء، تقديماً، وتأخيراً، والأحداث غريبة، يسود فيها قدر عجائبي، ورط عدداً من نقاده لاتهامه بالغيبية، قبل أن تصلنا عاصفة أوراق أميركا اللاتينية. وشخصيات القصص شديدة التنوع، تنبض بحيوية ناجمة عن تفاعل عميق مع المكان، والزمان، شخصيات يقلقها الموت والنهر، ويشغلها المطر والتمائم، مثلما يحيرها التراب والوجود. كل ذلك مكتوب بلغة نثرية ذات نكهة تراثية، تخالطها مفردات الحاضر دون إكراه. مات عبد السلام العجيلي! عسى أن يكون موته، مثلما كان الاحتفاء به قبل بضعة أشهر، مناسبة لاستعادته إلينا، بعد أن هجرناه طويلاً، وكثيراً.
فيصل خرتش:
شهرزاد الرقة
مدينة الرقة، مدينة السحر والميثولوجيا، مدينة البداوة والبساطة، بناسها الطيبين، بطينها وزواريبها وبيوتها المشبعة برائحة الفرات، بخرافاتها وعوالمها وطقوسها البدوية، حيث يجري الزمن ضائعاً بلهاثه المجروح... هناك ولد، وهناك عاش، وهناك مات...
عندما قرأت lt;بنت الساحرةgt; أصبح لديّ توقُ غريب لأتعرّف على هذا الرجل، يومها شدّتني إليه لغته البدوية الطازجة وصوره المنتقاة وعصاه التي يتكئ عليها ويضجّ بها ركام الكلمات، وقصته التي تفضي إلى قصّة أخرى فكأنما شهرزاد تشكلت واكتملت في الرقة.
بعد ذلك طرت معه إلى مصر، ثم إلى مراكش، حيث الأبنية الحمراء، قضيت معه خمسة أيام بلياليها نتمازح ونلهو في حسن المغرب، فكان الأديب والوالد معاً.
زرت وإياه المدينة الحمراء، رأينا نمط البناء العربي الأصيل في القلعة وفي المدينة القديمة ببيوتها وأزقتها وساحاتها، قال لي: lt;هل تعرف إنها تشبه حلب لو نظمت وعرف أهلها كيف يهتمون بها، وكيف يحافظون عليهاgt;. زرنا كذلك ساحة الغناء،
وامتلأنا بالأعاجيب والسحر والشعوذة، كانت ترافقنا صبية من حسناوات المغرب وتشرح لنا ما يمارسه السحرة والكهّان.
عدنا من المغرب وتركنا المعتمد بن عبّاد يبكي أطلال الأندلس، وصارت علاقتي بالدكتور عبد السلام علاقة إنسانية شاملة، يأتينا في المقهى ويجالسنا فنسمع رنينه العذب وحكاياته الحلوة، وأذكر مرة كيف أنني، أنا والأستاذ سعد يكن، اقترحنا جائزة دار النقطة، وكانت الجائزة هي في تكريم الأديب ومنحه لوحة فنية وجائزة ماديّة، لقد قبل اللوحة لكنه رفض بكلّ إباء الجائزة الماديّة.
أحاديث وأحاديث، لم يكن يمل منهاّ، في السهرات وفي الندوة يطالعنا الرجل الأنيق بحكاياته المأخوذة عن العجائز وشيوخ القبائل والأفراد، يقص حياته ويحكيها كأنها حدثت الآن، ببهجة صوته يرويها وتسمعها فتظنّ أنك مأسور لهذا الرجل منذ
ألف ألف عام، أو أكثر بقليل.
ألتفّ على وسادتي، فيأتيني الخبر مبكراً، أسمع صوت عبد اللطيف الخطاب، ينقل إليّ نبأ الوفاة، فأعرف أنّ آخر فارس قد سقط وأنّ الساحة خالية تماماً، سوى من العتمة.
أنيسة عبود:
يشبه الفرات
صعقني الخبر الذي سمعته وأنا أصعد أعلى جبل في الساحل السوري، وخاصة أن هذا العملاق والروائي الكبير تجمعني به أشياء كثيرة فلا أستطيع أن أقول له وداعاً يا أستاذنا، نحن الجيل الذي نشأ في التسعينات وكنا تربينا على أدب العمالقة من أمثالك، كنت حين أسمع باسمك يهفو قلبي تبجيلاً وفرحاً إلى أن التقيتك في الرقة ودعوتَني إلى بيتك العريق. ربما لم أستطع الكلام في لحظتها لأنني أمام الروائي الكبير الذي أسس لذاكرة روائية سورية وعربية. وأنت الآن تودعنا وأعرف كم أعطيتَ وكم أحببتَ هذا البلد. أتذكر كتابك الأخير lt;أيام الصباgt; الذي نشرته متضمناً ذكرياتك في فلسطين المحتلة، وذهابك في جيش الإنقاذ، وقد أرسلته من الرقة الجميلة التي رفضتَ أن تغادرها إلا في زيارات عابرة فكنت تشبه الفرات العظيم والفرات يشبهك، فكل يوم، وبعد أن قرأت الكتاب الذي يجب أن يدرّس ليكون نموذجاً لجيل الشباب العربي الطالع من نكبة إلى نكبة، كل يوم كنت أقول سأتصل بك وأقول سأكتب عن كتابك غداً، وغداً، وها هو الغد يأتي وأنت ترحل. ترحل جسداً ويبقى عبد السلام العجيلي الذي شكّل جزءاً مهماً من ذاكرة الأدب السوري والعربي. صعب عليّ يا سيدي أن أتحمل أو أن أقدر على الكلام في حضرة الغياب، غيابك وغياب الراحل محمد الماغوط، وكأنكما على موعد مع الموت، كم ذلك محزن خاصة ونحن في زمن بائس يحاول تضييع ذاكرتنا، لكننا لن نضيع وسنبقى أوفياء للذين أحبوا هذا التراب العظيم. وداعاً عبد السلام العجيلي، وبالتأكيد أنت لم تمت، لكنك تسافر في البعيد وتترك لنا أوراقك وإبداعك العظيم.
وفيق يوسف:
الملك
خلال ثمان وأربعين ساعة فقدت سوريا ملكين متوجين (ملك الشعر، وملك القصة والرواية) ورمزين مؤسسيْن للثقافة السورية والعربية في القرن العشرين. هذا كثير على سوريا.
في ظنّي أن رحيل هؤلاء الكبار يحيل إلى مفارقات عدة تستوقف المرء، أولاً؛ يرحل هؤلاء الكبار بعد أن أنجزوا مشاريعهم، وقدموا ما لديهم منذ زمن طويل، ورغم ذلك فقد صمدوا على عروشهم الأدبية عقوداً طويلة، ولم ينجح أحد في زحزحتهم عنها.
تُرى، هل يعود الأمر إلى ضحالة ما قدمتْه الأجيال اللاحقة، بالمقارنة مع ما قدموه؟ أم إلى البنية البطريركية للمجتمع العربي (إذا استعرنا تحليل الراحل الكبير الآخر هشام شرابي) وهي البنية التي تنسحب إلى حقل الثقافة أيضاً.
ثانياً؛ بنى هؤلاء الكبار مجدهم الأدبي على مقارعة السلطة والأنظمة المتتالية، وحملوا راية الحرية، ونادوا بكرامة الإنسان ومجده الأدبي، وذلك ما ساهم في تتويجهم على عرش الثقافة، وسط احتضان شعبي وإهمال رسمي، والمفارقة أنهم يرحلون اليوم وسط احتضان رسمي وإهمال شعبي، بعد أن أدار المواطن العربي ظهره للثقافة والسياسة والأدب والفكر، واكتفى بحياته البيولوجية المحضة من أكل وشرب وتناسل!
ثالثاً؛ كان جيل الأبناء يبدي ضجره ونفاد صبره من طول تربّع الآباء على عروشهم، والآن ها هم الآباء يترجلون بهدوء، تُرى من منَ الأبناء سيجرؤ على اعتلاء العرش إياه؟ في ظنّي أن العرش سيظل خاوياً.
على الصعيد الشخصي كنت ضجراً كغيري بهؤلاء الآباء المصرّين على البقاء على قيد الأدب والثقافة، والآن؟ من أين يأتيني كل هذا الحزن الذي يخنق الروح؟ من أين يأتيني هذا الإحساس باليتم؟!
إميلي نصر الله:
الظُّرف وعمق الثقافة
عبد السلام العجيلي، الأديب والطبيب الإنساني بامتياز.
التقيته، أول مرة، في ستينيات القرن الماضي، عندما كان يزور بيروت، في اثر صدور كتاب له، أو للمشاركة في ملتقى أدبي. وقد جمعني به صديق مشترك هو المرحوم أنطون متري، وكان مدير القسم العربي للإذاعة البريطانية في بيروت.
ما أذكره عن الرجل هو حضوره المميز بالظُّرف وعمق الثقافة، تماما مثلما هو أسلوبه في سرد القصص والحكايات، المكتوب منها والمروي شفهيا.
لقد أسس العجيلي في العام 1948 lt;عصبة الساخرين الأدبيةgt; المنسجمة مع طبعه الميال الى السخرية. ويبقى أهم ما في الرجل توظيف معطياته كلها، من الأدب الى الطب والسياسة، لخدمة الإنسان في وطنه.
جواد صيداوي:
واقعية بلا ابتذال
عرفت الفقيد عبد السلام العجيلي في مستهل ستينيات القرن الماضي يوم كان وزيراً للثقافة السورية، وكنت يومذاك في المركز الاقليمي لتدريب كبار موظفي التربية في العالم العربي التابع للاونسكو. وقمنا بزيارة الى سوريا، وفي اجتماع مع وزير الثقافة عبد السلام العجيلي لمست في كلمته الترحيبية وفي أحاديثه الجانبية شخصية أدبية فريدة في نوعها. فعبد السلام العجيلي ابن البادية وابن التقاليد الاجتماعية المنفتحة على الآخر وعلى العالم. ما أغراني بعد ذلك بقراءة بعض مؤلفاته وهي تكاد تبلغ الأربعين مؤلفاً. يتميز العجيلي في كتابته بالعفوية والصدق والواقعية البعيدة عن الابتذال وهو في انفتاحه على الثقافات الاجنبية استمر مع استفادته من تلك الثقافات، على نهج خاص، المؤمن بقوميته وإنسانيته وتعلقه بالبلد الذي ينتمي اليه. والحديث عن العجيلي ونتاجه الأدبي تصعب الاحاطة به في هذه اللحظة العاجلة الرازحة تحت وطأة الانفعال لفقدانه، واننا نكتفي بهذه العجالة أن نقدم للمثقفين السوريين أطيب العزاء لفقدانه وان لنا عودة مفصلة الى نتاجه الأدبي.
عماد العبد الله:
الوعي ممزوجاً بالسحر
كنت أسأله من أين تأتي بكل هذه القصص والمقالات فكان يضحك ويجيبني: من الدكان!
هكذا هو شخصية شيقة وملغزة أحيانا. فهذا المدني الطبيب القادم من الرقة في شمال سوريا هو ذاته شيخ الصلح وشيخ العرب وكبير أسرته في حل المشاكل بين البدو والحضر.
شيخ العرب هذا هو ذاته النائب في البرلمان والوزير في إحدى حكومات بلاده. اشترك مرة في السلطة ثم آثر ترك العمل السياسي رغم طلبات ومغريات الحكومة المتعاقبة. انحاز الى الناس والطب والكتابة والسفر.
شيخ العرب هذا هو نفسه الباريسي واللندني والنيويوركي وكذا من عواصم العالم.
يكتب المقالة ويكتب القصة ويكتب الرواية وكتبه فاقت الثلاثة والأربعين مؤلفا منها سبع روايات وثلاث عشرة مجموعة قصصية، وديوان شعر واحد، وخمس مجموعات من المقالات وعدد من المؤلفات الأخرى في مواضيع متنوعة.
أذكر له على وجه السرعة كتاب lt;جيل الدربكةgt; وlt;ادفع بالتي هي أحسنgt; ورواية lt;أرض السيادgt; ومجموعة lt;مجهولة على الطريقgt; القصصية.
هو صاحب طرفة وفكاهة وسرعة بديهة. يحفظ الشعر العربي جيداً ويتمتع بذاكرة مدهشة. له قصة في مجموعة lt;مجهولة على الطريقgt; بعنوان lt;الحاجgt; ما زالت تسحرني عندما أعيد قراءتها وتروي حدثا في منطقة البتراء في الأردن يقوم على ضياع امرأة في الزمان البعيد. لم أجد أياً من القاصّين العرب أتى بمثلها لجمالها وفتنتها وعقدتها المتينة. ولما سألته عن سر تلك القصة، قال لي إنه كتبها لمباراة أوروبية في القصة وقد نالت الجائزة الأولى.
كان يأتي الى بيروت ولا تشعر بأنه على سفر، بل فقط جاء لزيارتك من المبنى المقابل لمكتبك. يلذ لك القول عنه إنه نهضوي وتنويوي قذفت به من القرن التاسع عشر عاصفة زمنية. يرطن باللغات الأجنبية على غير عادة المبدعين السوريين وينضم بذلك الى قلة قليلة من مثقفي بلاده. عاشق للنساء هو فتحار بأن المرأة التي يتحدث عنها أهي حقيقية أم مشروع شخصية في إحدى أعماله.
كان يثقف الناس ويطيبهم ويصالحهم بعضهم بالبعض الآخر. كان بمثابة النموذج الحي للطبيب الذي حكى عنه الروائي المصري يحيى حقي في روايته lt;قنديل أم هاشمgt;. الوعي ممزوجا بالسحر وبالعادات المحلية.
عبد السلام العجيلي تغادرنا بعدما ارتويت من الحياة حباً وعملاً وإبداعاً وصداقات.
وما زالت ضحكتك ووصيتك ترنان في أذني: إياك والعمل بالسياسة.












التعليقات