السبت: 2006.05.06

د. حسن حنفي

إن التاريخ يعيد نفسه، أزمة انتخابات نادي الضباط عام 1952 والتي عجَّلت بثورة يوليو، وأزمة نادي القضاة في الإسكندرية عام 2006، بعد ما يزيد على نصف قرن. وهناك حنين إلى الستينيات والعودة إلى ذروة انتصارات الثورة المصرية في مواجهة الاستعمار والصهيونية والبناء الاشتراكي لمصر.

تلاعب الملك في انتخابات نادي الضباط ورغبته في انتخاب أحد أنصاره، حسين سري عامر، ضد مرشح الضباط، اللواء محمد نجيب. وهو ما يحدث الآن في الصراع بين مجلس القضاء الأعلى المعين من وزير العدل ممثل الدولة، ونادي القضاة الحر المنتخب من مجموع الهيئة القضائية في مصر، والصراع على قانون السلطة القضائية التي يريدها نادي القضاة، والإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وإثبات التزوير في حالة وقوعه، وتصدي نواب محاكم النقض ورئيس نادي القضاة لذلك، الخضيري ومكي وبسطاويسي. أزمة نادي الضباط الأولى في القاهرة، وحصار نادي القضاة الثانية في الإسكندرية، التي أيد معسكرها وأيدت جامعتها الثورة بعد اندلاعها.

والظروف في الحالتين متشابهة. في كلتا الحالتين برز quot;الإخوانquot; والشيوعيون، وفشل الحياة الحزبية بين أحزاب القصر، أحزاب الأقلية، وحزب quot;الوفدquot;، حزب الأغلبية في الحالة الأولى، وفشل أحزاب الأقلية المعارضة وفشل الحزب الحاكم في استقطاب مجموع الشعب، ووجود حزب المعارضة الرئيسي، quot;الإخوانquot;، في الشارع والبرلمان، والصحافة دون أي سند شرعي يحميه بعد حل الجماعة منذ 1954، في الحالة الثانية.

كان هناك الملك والحاشية وأحزاب الأقلية. والكل يمثل سلطة القصر. واليوم هناك الحزب الحاكم ولجنة السياسات للتدخل في الحياة السياسية وفرض الوزراء والنواب والمحافظين ومديري الأمن ورؤساء الجامعات والهيئات العامة. وكان الإنجليز القطب الثاني في الحياة السياسية قبل الثورة يملون إرادتهم السياسية مثل حادثة 4 فبراير، والآن هناك الولايات المتحدة الأميركية التي تملي سياساتها على النظم السياسية بالمنطقة. وكان الإقطاع سنداً للقصر والإنجليز أولاً، والآن رجال الأعمال والبنوك والمتلاعبون بأسعار الحديد والأسمنت ونواب القروض ورؤساء مجالس إدارات شركات القطاع الخاص مثل النقل الملاحي التي هرب صاحبها بعد غرق العبَّارة. والفساد في كلتا الحالتين مستمر، فساد التهرب من الضرائب والرشاوى والعمولات ونهب المال العام. وعلى مدى أكثر من نصف قرن وأجهزة الأمن منذ أيام الملك مدربة على أن الشعب عدو النظام، وأن قادة المظاهرات عملاء للأجنبي. ومن الأفضل التعامل مع حركات المعارضة في كل الحالات على أنها من دعاة الشغب، وتعكير صفو الأمن والنظام العام.

قاد الضباط الأحرار أزمة انتخابات نادي الضباط بالأمس. ويقود اليوم المثقفون الأحرار والقضاة الأحرار حركة نادي القضاة وحركة الشارع المصري الممثلة في quot;كفايةquot; وquot;الحركة المصرية من أجل التغييرquot; وquot;فنانون من أجل التغييرquot; وquot;حركة 9 مارس لاستقلال الجامعاتquot; وتنظيمات المجتمع المدني التي بلغت أربعة عشر تنظيماً. عجل بثورة يوليو حريق القاهرة في يناير 1952. وربما تعجِّل بأزمة جديدة مظاهر العنف في المدن وفي سيناء وفي الريف والصراعات الطائفية في الصعيد والإسكندرية.

عبَّر الضباط الأحرار منذ أكثر من ستين عاماً عن فورة الحركة الوطنية المصرية في الأربعينيات كما جسدتها لجنة الطلبة والعمال عام 1946، وتعبر حركة المثقفين والفنانين والقضاة الأحرار عن الهبَّات الشعبية التي اندلعت منذ هزيمة يونيو 1967، مظاهرات مارس 1968، مظاهرات ميدان التحرير عام 1971، الهبَّة الشعبية في يناير 1977، الإجماع الوطني على رفض سياسات الجمهورية الثانية في سبتمبر 1981، هبة الأمن المركزي في 1986، انتفاضة الجامعات ضد العدوان الأميركي المتكرر على العراق في يناير 1991 ثم في رمضان 1998 ثم الاحتلال الشامل في مارس 2003. تكونت الخلايا الأولى للضباط الأحرار في فلسطين عام 1948 كما تكونت حركات المعارضة في الجمهورية الأولى في مارس 1968 ضد أحكام الطيران الذي أدى إلى هزيمة يونيو 1967، وضد التحول الاشتراكي في مصر بعد حرب أكتوبر 1973. وظل الصراع ضد التسلط والقهر ممتداً والدعوة إلى إقامة حياة ديمقراطية سليمة كأحد المبادئ الستة للثورة المصرية والذي مازال هدفاً بعيد المنال بعد مرور أكثر من نصف قرن مع تعدد الأعذار: تأمين الثورة ضد خصومها في الداخل والخارج، والديمقراطية المباشرة في الجمهورية الأولى، الديمقراطية لها أنياب والقوانين سيئة السمعة في الجمهورية الثانية، وقوانين الطوارئ وأخطاء الانتخابات وتعديل الدستور في الجمهورية الثالثة.

ومما يساعد على الإسراع في إنهاء مرحلة وبداية أخرى الخروج على مبادئ ثورة يوليو كلية، والتحول من الثورة إلى الثورة المضادة، ومن النقيض إلى النقيض. فقد تم الانقلاب على الخيار الاشتراكي إلى الرأسمالية، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص حتى في القطاعات الشعبية مثل الكهرباء والمياه والمواصلات، ومن مجانية التعليم إلى التعليم الخاص، ومن دستور 1923 الذي وضع لمصر نظامها الليبرالي إلى دستور 1971 في الجمهورية الثانية والتغيير الشكلي للمادة 76 في الجمهورية الثالثة، ومن تأميم الشركات الأجنبية إلى استدعائها كاستثمار مستقل أو مشارك. ومن القومية العربية إلى القطرية ثم إلى تفتيت الأقطار إلى فسيفساء عرقي طائفي كما يحدث الآن في العراق والسودان ثم في الخليج والحجاز ومصر وأقطار المغرب العربي كله. ومن التعاون مع الشرق ممثلاً في الكتلة الشرقية وروسيا والهند إلى التعاون مع الغرب الأوروبي والأميركي. ومن أفريقيا وآسيا في منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي كدائرة ثالثة للتحرك العربي ابتداء من مصر والوطن العربي إلى الانكماش والانعزال والتراجع حتى أصبحت إسرائيل هي أداة التحديث في أفريقيا. وتتعاون مع الهند والصين في النهضة التكنولوجية الحديثة بما في ذلك صناعة السلاح. بل إن إسرائيل تطبق الآن سياسة الدوائر الثلاث حولها بدلاً من مصر: الدائرة الغربية الأميركية، والدائرة العربية الإسلامية، ثم الدائرة الأفريقية الآسيوية.

وإذا كان ابن خلدون، والعالم كله يحتفل بستة قرون على وفاته، قد حدد الجيل بأربعين أو خمسين سنة، فإن عمر الثورة المصرية الأولى قد قارب على الانتهاء منذ 1952 حتى 2003 غزو أميركا للعراق، واستيلاء إسرائيل على فلسطين كلها، النصف الأول في 1948 والثاني عام 1967 مع احتلال سوريا ولبنان، واسترداد سيناء منزوعة السلاح، فإن الثورة المصرية الثانية ربما تكون قد قاربت على الابتداء بعد ثلاث جمهوريات: الأولى 1952-1970، والثانية 1970-1981، والثالثة 1982 حتى انتفاضة نادي القضاة وتضامن نوادي أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية، وحركة 9 مارس، وquot;كفايةquot;، وquot;الحركة الوطنية من أجل التغييرquot;، ومنظمات المجتمع المدني، ونقابات الصحفيين والمحامين والمهندسين، والعمال في الطريق.

ثمة محاولات لعزل مصر، والضغط من أجل انكماشها وانفراط العقد. توقف القلب ففشلت الأطراف. ولن تعود الأطراف إلى التآزر الحركي إلا بعد نهضة مصر من جديد، وعودتها إلى مسارها الطبيعي، وموقعها الجغرافي، وثقلها التاريخي. تحمي نفسها من التآكل والتفتت. وتحمي محيطها من التبعثر والضياع.