الأربعاء: 2006.05.10

احتفال عالمي مثير للجدل بالذكرى المئة والخمسين لولادة سيغموند فرويد

جهاد الترك


كان يمكن للذكرى المئة والخمسين لولادة الأب الروحي لنظرية التحليل النفسي، سيغموند فرويد، أن تمر كسابقاتها وهي مغرقة في الرتابة القسرية التي أسدلت على هذه العبقرية الفذة منذ عقود طويلة. غير أن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث هذه المرة. إذ لوحظ، منذ أيام قليلة فقط، سباق منقطع النظير تقوده دوائر أكاديمية مرموقة في العالم، ومرجعيات مماثلة لها سطوتها في الطب النفسي، مرده الى إعادة الاعتبار الى هذا الرجل. غريب أمر هذه التظاهرة التي لم يكن مقدراً لها أن ترتدي هذا الطابع الاحتفالي الضخم. وكأنها تنطوي على اعتذار quot;تاريخيquot; بمفعول رجعي ممن اعتبر في الأمس القريب العرّاب الأول لاستكشاف المتاهات المحيرة في النفس البشرية المتوحشة. ولكن، هل يبدو المشهد كذلك؟ وهل ثمة طلب للغفران من هذا quot;الساحرquot; الذي نجح في الترويج لألاعيبه المذهلة ما يقرب من خمسين عاماً؟ الأرجح، في هذا السياق، ان ثمة شيئاً من هذا وذاك. والأهم أن القطيعة التي قوبل بها هذا العالم، منذ ثمانينات القرن الماضي، لا تبدو نهائية بعد. فنظريته الحيوية التي تدور حول اعتبار quot;اللاوعيquot; أمراً حقيقياً كامناً في عمق النفس البشرية، لا تزال تسيل لعاب الأطباء النفسيين حتى وإن تظاهروا بأنها أصبحت من الأدبيات الخرافية لعلم النفس. يضاف الى ذلك أن quot;الجبهةquot; الواسعة التي أرسى فرويد قواعدها في شتى العلوم الانسانية، لا تزال صامدة، بشكل أو بآخر حتى اليوم. أتباعها منتشرون كخيوط العنكبوت في المراكز العلمية والجامعات والأوساط الفكرية من أدنى العالم الى أقصاه. وهؤلاء يشنون هجمات quot;مقدسةquot; لاستعادة ما صودر من quot;ممتلكاتهمquot;، إما عنوة، وإما بحكم المكتشفات الحديثة التي طرأت على علم النفس في الآونة الأخيرة. وليس يبدو، حتى اليوم، أن هذه quot;المعركةquot; بين الفريقين محسومة النتائج لمصلحة أحدهما وإن بدا أنها أصعب منالاً لدى مناصري فرويد.
الحدث الاستثنائي، هذه الأيام، هو الاحتفال بالذكرى المئة والخمسين لولادة فرويد. وتحديداً في مسقط رأسه، النمسا، حيث نشأ وترعرع وتجرأ على الاتيان بنظرياته المستهجنة التي كادت أن تقلب المقاييس العلمية رأساً على عقب. فرويد هو قبلة الأنظار بدءاً من السادس من شهر أيار ـ مايو الحالي وحتى إشعار آخر.
الاحتفال في العاصمة النمسوية فيينا وفي سائر الأوساط والمراكز المعنية بالطب النفسي، لن يسفر بالتأكيد عن مظاهر تدعو الى الفرح والابتهاج والدعاء لروح الفقيد الكبير. إنها مناسبة يترقبها كثيرون، من هذه quot;الجبهةquot;، أو تلك، للنيل من فرويد وتلاوة آخر صلاة معتبرة على روحه، أو استسقاء الرحمة على ما تبقى من روحه والدعوة الى رص الصفوف لإلحاق الهزيمة بأعدائه ومن يتربص بفلسفته شراً.


احتفال في ظروف ملتهبة
ومع ذلك، لن يكون مثيل لهذا الاحتفال في ظروف دولية تستدرج فيها غيوم العولمة المتوحشة، وأشباح حروب أكثر برودة من نظيرتها الى كانت سائدة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وتآكل المجتمعات الفقيرة على إيقاع التخلف والانقراض البطيء، والتدحرج السريع لكرة النزاعات المذهبية والعرقية. ألم يبشر فرويد في ما نشر من مؤلفات بأن حضارة القرن العشرين مشروع دائم لعدم الاستقرار واشتعال أتون الحروب وانفلات الغرائز بأشكالها الدموية من عقالها؟ ألم يدع فرويد الى حماية المجتمعات المدنية من خلال التواضع قليلاً والاعتراف بأن العقل البشري خزان مخيف لأبشع أنماط التناقضات والتقاتل العنيف، ما لم يجر لجمه بالسيطرة على نوازعه القاتلة؟ ألم يحذر فرويد من أن الحمل الثقيل الذي ينوء تحته الفرد نتيجة للكبت التاريخي الطويل القابع في المناطق النائية من اللاوعي، هو نموذج مصغر للمجتمعات والبلدان والدول التي تتحول معاناتها من هذا الكبت القهري ظاهرة عامة وأرضاً خصبة للعنف الجماعي؟
فرويد دق ناقوس الخطر، منذ نهايات القرن التاسع عشر. قاده تشاؤمه من التخبط والحيرة والضياع التي تثقل على الروح، الى التوغل بعيداً في تضاريس النفس البشرية مدفوعاً بالمقاييس العلمية التي أرخت بظلها، على علوم البيولوجيا والاجتماع والسياسة والفيزياء وسواها. سلك الطريق عينها التي سار فيها مؤسس النظرية الاشتراكية، كارل ماركس، والنظرية التطورية، تشارلز داروين، ورائد الفيزياء الحديثة، ألبرت اينشتاين. ولم يكن، في الوقت عينه، بمنأى عن التأثيرات الفكرية والفلسفية العميقة التي أرساها كل من فريديريك نيتشه صاحب نظرية الانسان المتفوق، والفيلسوف الألماني صاحب الجدلية المثالية ونظرية الروح المطلق، هيغل.
على هذا الأساس، كان فرويد الابن البار لعصره. لم يتوجه وجهة أخرى. ولم يسلك درب التبصير والتنجيم والشعوذة. بدا، في تلك الأثناء، أحد قلائل من النخبة التي كانت تستكمل ما تبقى من تفاصيل عصر التنوير الذي نقل أوروبا، بدءاً من القرن السادس عشر، من حال التخلف والانهيار الى سلطان القوة وصنع التاريخ.
اقتبس من الداروينية التزامها الحثيث بالبحث عن أسباب النشوء والارتقاء في الطبقات السفلى لأشكال الحياة سعياً الى القبض على ما يتميّز به الانسان عن سواه من المخلوقات. بدا داروين منقباً عن أصل الحياة في ما يتعدى الظاهر الى الباطن. هكذا فعل فرويد وهو يستعد لقفزته التاريخية من ظاهر النفس الى باطنها حيث التوحش في أقصى درجاته غلياناً. وأخذ عن ماركس تنقيبه في ما يتجاوز ظاهر البنى الاجتماعية وصولاً الى الأسباب الحقيقية الفاعلة في تشكل الوعي السياسي على مستوى العلاقة بين نظام الحكم والناس. ففي الوقت الذي كان ماركس يتسلل، بنظريته الاجتماعية المستحدثة، الى داخل علاقات الانتاج للعثور على الكيفية التي يتكون بها الوعي الانساني، كان فرويد يستخدم الوسيلة عينها من خلال اجتيازه الحد الفاصل بين الوعي الظاهر الى اللاوعي المختبئ في قاع النفس البشرية. وأخذ عن نيتشه انحيازه الى تلبية الرغبات الناتجة عن غريزة البقاء. فالانسان المتفوق لدى هذا الأخير هو ذلك الذي يصغي الى نداء الروح وهي تذلل الصعاب لتحقيق الحلم الأكبر الذي يراود الانسان، وهو الانتقال من حال الضعف المتوارثة الى حال الاستقواء بمرتكزات القوة التي تتدفق في الدماء وتستولي على الارادة.
غير أن فرويد، والحال هذه، لم يكن نظيراً لأي من زملائه الثلاثة وإن سعى الى الافادة القصوى من نظرياتهم في التطور وصولاً الى وضع نظرية مقننة ذات إطار علمي محكم للوجود الانساني في الكون. فرويد هو فرويد. سعى بذلك الى ما اعتبره وزملاء له في تلك الاثناء، الى الكشف عن سر الأسرار، عما يحيل الانسان كائناً لا يعود فهمه على حقيقته أمراً متعذراً. هذا بالتحديد ما كان يجري التداول به مساء كل أربعاء في منزل فرويد في فيينا، وهو مجتمع الى عصبة قليلة العدد ممن كان يخصهم بعنايته ويخصونه بالولاء الكامل لنظريته في التحليل النفسي. لسنا نعلم الشيء الكثير عن فحوى تلك الاجتماعات التي غالباً ما كانت تعقد بسرية تامة. غير أن ما تناقلته الأدبيات الفرويدية، والزمن مقبل على القرن العشرين، ان هذه العصبة التي لم يتجاوز عددها أصابع اليدين، كانت تزعم أنها وحدها المؤهلة لمناقشة شؤون وشجون محددات النفس البشرية لنفض الغبار الكثيف عن الغموض التي يعتريها. ثمة من يزعم، في هذا السياق، أن الاعتداد بأهمية ما توصلت إليه هذه العصبة، قد بلغ ما حدا بهؤلاء الى الادعاء بتشكيل حكومة ظل عالمية هي الأكثر كفاءة لمعالجة الأزمات الناتجة عن تجاهل خطورة اللاوعي للحفاظ على استمرارية البشرية.

اللاوعي.. ذلك الوحش

لسوء حظ فرويد، لم يقيض لهذه الزمرة أن تصمد طويلاً. كان فرويد متعنتاً صلباً عنيداً الى الحد الذي جعله يقاطع كل من لا يثبت بالدليل القاطع ولاء مطلقاً لنظرياته في التحليل النفسي. كان التزامه برأيه أقوى من كل صداقاته. لم يساوم على نظرياته. ظل يقاتل من أجلها حتى الرمق الأخير عندما وافته المنية في العاصمة البريطانية، لندن، حيث دفن على مقربة من زميل آخر له هو كارل ماركس.
ما هي، باختصار، النظرية التي أدهش بها فرويد العالم، فأحالته عدواً شرساً يستحق عقاب التشهير حيناً، والحكم عليه بالاعدام الفكري حيناً آخر، أو اعتباره واحداً من أعظم المتمردين على الفكر التقليدي لعصر التنوير حيناً ثالثاً؟
زعم فرويد، إسوة بالتوجهات السائدة في علوم البيولوجيا والانثروبولوجيا السائدة في عصره، أنه يصعب فهم الدينامية التي يعمل بها العقل البشري استناداً الى ما يطلق عليه العلماء الوعي الظاهر لدى الإنسان. بدا فرويد منكباً في أواخر القرن التاسع عشر على دراسة المنشأ الداخلي للأمراض النفسية، ومن بينها الهستيريا، الفصام، الوسواس القهري والاضطهاد وسواها. تبين له، كما جاء في كتبه ومحاضراته وأدبياته الكثيرة، أن ثمة عالماً متكاملاً بتشعباته وتفاصيله الدقيقة وغموضه المخيف، يكمن في الطبقات السفلى للعقل الواعي. يتحرك في كل الاتجاهات الداخلية بذاكرة قوية لا تستثني شيئاً على الإطلاق. إنه الدائرة الكبرى التي يتشكل فيها الوعي الحقيقي للعقل البشري بعيداً في مناطق ساكنة صامتة غير أنها معرضة، على الدوام، للانفجار الكبير ما لم تُلبّ الرغبات الأساسية لهذه الغرائز الداكنة الى حد الإشباع. ثمة، في هذه النظرية التي لا تزال مثيرة لجدال عنيف من قبل المؤيدين والمعترضين، ما يسلط الأضواء على نقاط لم يكن التطرّق إليها في تلك الأثناء ممارسة مألوفة. كما لم يقدم أحد، قبل فرويد، على التأكيد بأن الوعي الظاهر للعقل البشري إنما هو من قبيل القشور الخارجية لوعي حقيقي آخر دفين في غياهب العقل البشري، هو المحرك الحيوي للسلوك الإنساني. سعى فرويد الى توفير الدليل على نظريته بأن عزا الأحلام وزلات اللسان والتصرفات اللاإرادية والاضطرابات النفسية التي لا تفسير علمياً لها، الى المخاض العنيف الكامن في اللاوعي. غير أنه سرعان ما خطا خطوة أبعد في هذا التوجه، إذ زعم أن أكثر ما يبعث على الخطورة في هذا اللاوعي هو النوازع الجنسية الأكثر تماساً مع الطبيعة الغريزية لبيولوجيا الجسد. إن حالة غريزية منفلتة من كل الضوابط بحكم طبيعتها العصيّة على الكبت، هي التي تتولى مهمة التعبير عن ضيق ذرعها بالضوابط المفروضة عليها بالقهر، من خلال الأحلام والحالات العصبية والأمراض النفسية التي تداهم الإنسان في كل مكان وزمان.
إن نظرية كهذه، تجعل من اللاوعي عقلاً غريزياً داخلياً رديفاً للعقل الواعي، سرعان ما دفعت في اتجاه تعميم هذه الظاهرة على المجتمعات والدول والأمم باعتبارها ذاتاً جماعية، لمجموع أفرادها. هنا بيت القصيد. وهنا اللغز الكبير الذي حكم على هذه النظرية بالنفي والبطلان وإلغاء مشروعيتها العلمية. لم يعد علماء النفس والأطباء المعالجون للأمراض العصبية، يجدون في هذه النظرية جدوى استثنائية بعدما ثبت أن معالجة هذه الأمراض بالعقاقير الطبية أكثر فاعلية. والأرجح أن شمس فرويد أخذت بالأفول بدءاً من أواخر سبعينات القرن الماضي مع تباشير الكشف عن الخارطة الجينية والأمراض الوراثية واحتمال مداواتها بالأدوية المكونة من مواد كيميائية. ومع ذلك، لم يكن إبطال نظرية فرويد حول العقل اللاواعي، نزهة بين الرياحين. بدا إرثه، مع اقتراب عقد الثمانينات الماضية، ثقيلاً متجذراً في أدبيات الطب النفسي وفي سائر العلوم الإنسانية على وجه التقريب. في تلك الأثناء، بدا لكثيرين أن استبدال نظرية فرويد بنظريات أخرى، ضرب من الخيانة لعلم النفس أو طعنة في الظهر، على الأقل، لسياق تاريخي طويل من سلسلة واسعة من تحليل النفس البشرية ومحاولة فهمها على نحو أكثر موضوعية.


حضارة مريضة بالقلق
بيت القصيد، على الأرجح، يكمن في الخلفية السياسية لنظرية اللاوعي لدى فرويد. يظهر ذلك بوضوح، في آخر مؤلفاته التي صاغها وهو ينازع سكرات الموت على فراشه اللندني. عنوان الكتاب هو: quot;الحضارة وأسباب قلقهاquot;، يرى فيه أنه لن يقيّض للإنسان الاستقرار النفسي على الإطلاق، طالما يتنازعه نوعان إثنان من الضغوط، هما: الأنا العليا ومردها الى القوانين والأعراف والتقاليد التي يتوارثها المجتمع جيلاً بعد آخر. والثاني الأنا السفلى، وهي اللاوعي أو الخزان الذي يستجمع في داخله ذلك الكم الهائل من النزعات المكبوتة. وبين الإثنين quot;الأنا الذاتيةquot; التي تشكل ضابط إيقاع بين مصدر الضغوط القانونية والأخلاقية العائدة الى الأنا العليا، والاستياء المتراكم للأنا السفلى نتيجة لتلقيها الدائم سياسة القهر والكبت والإرهاب. ضابط الإيقاع هذا ليس مهيأ، على الدوام، لتحمّل الأعباء الصادرة من الأنا العليا ومثيلتها السفلى. وهي وإن نجحت في إقامة تسوية بين الإثنتين حفاظاً على الانتظام الاجتماعي العام، فإن أفراداً كثيرين لن يكون بمقدورهم الصمود طويلاً. على هذا الأساس، فإن مجتمعات وبلداناً عدة، لن يكون بمقدورها كذلك، على مقاومة أسباب العنف والتنابذ والتقاتل بين أفرادها، أو بين هؤلاء ومجتمعات أخرى للأسباب عينها.
ليس في هذا الكتاب المشحون تشاؤماً وقلقاً وخوفاً على المصير الإنساني، ما يشير الى تمكن فرويد من التوصل الى حلّ لهذا النزاع المتوحش بين الأقانيم الثلاثة للنفس البشرية. الأرجح أنه لم يتوخّ العثور على تسوية من شأنها أن تضع حداً للتناقض العنيف بين الإنسان وذاته، وبينه وبين المجتمع. يكتفي فرويد بتشريع الأزمة وإدارتها على نحو لا يبشر بانفتاح الأفق أمام حلول موضوعية. هل قصد فرويد، بهذا الكتاب، أن ينبّه من احتمال أن تنطلق الشياطين المدفونة في قبور اللاوعي في لحظة زمنية محددة لتلتهم الأخضر واليابس، فتنتقم لنفسها من أثقال الكبت المزمن الذي حشرت فيه؟ الأغلب أنه يشير الى شيء من هذا القبيل، ملمحاً الى أن الأزمات التي تتربّص بالبشرية لن تهدأ حالاً بانتظار أن يجري التخفيف من حالة الحصار المدروس المفروض على اللاوعي.
في هذا السياق، يحذر فرويد من أن الاحتقان الذي يضغط على اللاوعي بأثقاله المتفاقمة لا بد من أن يحدث انفجاراً مدمراً على مستوى الفرد والجماعة والأمة وسواها. هذه هي الخلاصة المكثفة التي استنتجها فرويد في السنوات القليلة التي سبقت وفاته. يذكر، في هذا الإطار، أنه رفض في تلك الفترة الخضوع لعلاجات تتلاءم مع المرض العضال الذي فتك بفكيه حتى يحافظ على صفاء ذهني كامل وهو يصوغ البعد السياسي لنظريته في التحليل النفسي. كان يكتفي بأقراص الاسبيرين فقط. لفظ أنفاسه الأخيرة مباشرة بعد أن أنجز الكتاب المذكور، تاركاً إياه لغماً موقوتاً برسم التحليل النفسي وعلماء الاجتماع والسياسة وصناع القرار.
مات فرويد. عاش فرويد. بدليل أن ثمة في الاحتفال بذكرى مولده المئة والخمسين، من يسعون الى التأكد من أن طريقة دفنه لا تفسح في المجال لتسرّب شعاع واحد من نور الى رفاته. وثمة من لا يزال يرى في نظريته مخرجاً وحيداً لا نظير له، لحالة الفوضى العارمة التي تنتهك جسد الإنسانية الضعيف. وبين هؤلاء وأولئك تحتدم المعارك بأسلحة فكرية من مختلف العيارات.


أحرق أوراقه الشخصية
مرتين على الأقل


ولد سيغموند فرويد في العام 1856 في مقاطعة فرايبرغ، مورافيا التي كانت تابعة وقتئذ للامبراطورية النمسوية، وتندرج اليوم في الجغرافيا التشيكية. كان الابن الأكبر بين ثلاثة أشقاء وخمس شقيقات. كما كان له أشقاء يكبرونه سناً من زواج سابق لوالده. نشأ في عائلة غير ميسورة كانت تقطن منزلاً صغيراً يكاد لا يتسع لأفراده. غير أنه سرعان ما لفت اهتمام والديه لنباهته وتفوقه في الدراسة، فبذلا له الغالي والنفيس ليتمكن من استكمال تعليمه الأكاديمي. حظي بقبول من جامعة فيينا وهو في السابعة عشرة على الرغم من الاجواء المعادية لليهود في أوروبا. وكان واحداً من أولئك الذين نفروا، في سن مبكرة، من التقاليد اليهودية التي جعلت هذه الجالية تغلق على نفسها في أوروبا قاطبة. يظهر هذا الاستياء من كونه ولد لأبوين يهوديين في سائر مؤلفاته، وكذلك في نظريته حول التحليل النفسي، والدليل أنه تناول بالنقد الشديد النظرية التوراتية باعتبارها خرافة في كتابه quot;موسى والتوحيدquot;. ولا يبدو أنه أقام وزناً في أدبياته للفكر الديني اليهودي على الإطلاق.
لا يعرف الشيء الكثير عن بداياته الأولى، فقد أقدم على حرق أوراقه الشخصية مرتين على الأقل، في العام 1885 و1907. عاد فرويد الى فيينا في العام 1886 بعدما أنهى دراسته الجامعية في الطب العصبي والاضطرابات الدماغية. تزوج في تلك الأثناء. بدأ حياته المهنية باستخدام تقنية التنويم المغناطيسي في معالجة الحالات الهستيرية والعصبية الحادة، ثم أقلع عن هذه الوسيلة. وكان تعرض هو نفسه في بداية عقده الخامس لاضطرابات نفسية عنيفة نتيجة خوفه المتفاقم من الموت. شرع في استكشاف نظرياته النفسية بدءاً من تقصّي تجلياتها وفك رموزها في ما يتعلق بوساوسه الشخصية والأحلام المزعجة التي كان يراها باستمرار. عيّن أستاذاً أصيلاً للطب النفسي في جامعة فيينا في أعقاب سلسلة من المؤلفات التي استقطبت نجاحاً كبيراً. حاز جائزة quot;غوتهquot; الشهيرة في العام 1930 بعد ثلاثين عاماً على توليه موقع الأستاذية. غادر النمسا عنوة بعد تسلم الحزب النازي بقيادة هتلر السلطة في ألمانيا واجتياحه النمسا، مصطحباً معه أفراد أسرته. قصد أولاً فرنسا، ثم انتقل الى العاصمة البريطانية، لندن. أُجبر قبل مغادرته النمسا على توقيع وثيقة تفيد بأنه لم يجر التعرض له بالسوء على أيدي النازيين. دأب على تدخين السيجار بشراهة حتى وفاته في العام 1939 متأثراً بإصابته بمرض السرطان الذي عاجله في الفكين. خضع لأكثر من ثلاثين عملية جراحية لم تجد نفعاً للقضاء على المرض العضال. توفي في العام 1939 وهو في حالة من الصفاء الذهني الكامل والانكباب على الكتابة. أخذت ابنته الصغرى، آنا، عنه ولعها بالتحليل النفسي وتخصصت فيه، وبرعت في علم النفس لدى الأطفال.

فرويد في الأدبيات العربية

لم يُقيّض لنظرية فرويد في التحليل النفسي، وركيزتها الأساسية quot;اللاوعيquot;، أن تتغلغل في أدبيات الطب النفسي في الوطن العربي، حتى في عزّ ازدهارها وانتشارها في الولايات المتحدة وأوروبا. بقيت على هامش الحركة الثقافية من دون أن تتحول جزءاً لا يتجزأ من نسيجها على الرغم من إقدام عدد من دور النشر العربية، خصوصاً في لبنان، على تعريب مؤلفات هامة لفرويد أثرت عميقاً في البنية الفكرية في المجتمعات الغربية. الأرجح أن انصراف فرويد المتعمّد الى استخدام نظريته في quot;اللاوعيquot; في مجال النقد الاجتماعي شديد اللهجة للمجتمعات الرأسمالية في الغربين الأوروبي والأميركي، شكل أحد الاهتمامات لدى المثقفين العرب في عقدي الخمسينات والستينات بالتحديد، والسبعينات بشكل عام.
الأغلب، أن الغليان الثقافي في الوطن العربي والحاجة الماسة للمثقفين العرب الى أدوات فكرية في النقد المنهجي وتأصيل النظرية السياسية، أمور شكلت حافزاً هاماً لاقتباس فرويد في ما يتعلق بدحض الاستعمار القديم وسحب البساط من تحت مصالحه الاستراتيجية. بدا فرويد، في تلك الأثناء، محطاً للإعجاب الكبير لدى المثقفين العرب وهم يناضلون من أجل ترسيخ قيم الاستقلال والانعتاق النهائي من هيمنة الغرب وأحلافه. ومع ذلك، فإن نظرية فرويد التي أحدثت انقلاباً هو الأخطر في الطب النفسي، لم تكن مقصورة فقط على بعدها السياسي، بل استهدفت، بالدرجة الأولى، تشريح النفس البشرية في عمقها الغامض وأعراضها المستفحلة. ليس يبدو أي رواج حقيقي لنظرية فرويد في الوطن العربي بعيداً عن الأدوات الفكرية التي قدمها لاتهامه المجتمعات الغربية بأنها أكثر عرضة للأمراض النفسية والتناقضات عن سواها. ومع ذلك، يمكن القول أن ثمة أثراً واضحاً لفرويد في عدد وافر من المؤلفات العربية التي كانت تسعى الى التقدم خطوات أسرع وأعمق في اتجاه التشريح النفسي لبنية المجتمعات العربية وتقصي أسباب الجهل والتخلف والفشل في تحقيق التنمية. ولا يزال فرويد ماثلاً حتى اليوم في أذهان شريحة واسعة من المثقفين العرب كلما أُفسح لهم في المجال لمقاربة ظاهرة القضاء على الثقافة المنفتحة في الوطن العربي.


من كتبه المعربة:
* تفسير الأحلام.
* ثلاث مقالات في النظرية الجنسية.
* ما فوق مبدأ اللذة.
* حياتي والتحليل النفسي.
* عسر في الحضارة.
* موسى والتوحيد.
* خمس مقالات في التحليل النفسي.
* الطوطم والتابو.
* مقالات في الفن والتحليل النفسي.