الأربعاء: 2006.06.07

د. خالد الدخيل

تشهد السعودية في الآونة الأخيرة ظاهرة لافتة، وهي أن التيار الديني يتبنى أسلوب الهجوم على ما يعتبره أفكاراً وسياسات منحرفة تشهدها المملكة هذه الأيام. ويعبر عن ذلك في أشكال مختلفة، أبرزها ما تحفل به المواقع الإلكترونية من مقالات وتعليقات، وبشكل خاص صدور بيانات ممهورة من قبل من ينتمون للتيار الديني. خلال أقل من ثلاثة أشهر ظهرت ثلاثة بيانات باسم التيار الديني. وجميعها تحذر من إنحراف فكري وسلوكي أخذ، كما يرى موقعو هذه البيانات، يتمكن داخل مؤسسات الحكومة السعودية. صدر البيان الأول في شهر أبريل الماضي، عبر موقعوه من خلاله عن امتعاضهم من ما اعتبروه اختلاطا بين النساء والرجال حدث في حفل افتتاح الملتقى الأول للبيئة في مدينة بريده في القصيم. وفي شهر مايو الماضي صدر البيان الثاني تحت عنوان quot;بيان حول تجاوزات وزارة الثقافة والإعلامquot;. يقول البيان بأن وزارة الثقافة والإعلام تتبنى وتصر على quot;نشر ما حرم الله من الفكر المنحرف، والمناوأة الظاهرة للدعوة والدعاة وحلقات تحفيظ كتاب الله، والسعي في نشر الفساد والرذيلة، وبث الشبهات بين أبنائنا وبناتنا، وحمل لواء الدعوة إلى تغريب المجتمع، كالدعوة إلى التبرج والسفور، والاختلاط المحرّم، وقيادة المرأة للسيارة...quot;. وفي أواخر الشهر نفسه صدر البيان الثالث تحت عنوان quot;بيان وتحذيرquot;. وهو يدور حول فكرة واحدة تختزل كل ما جاء في البيانات الأخرى، وهي التحذير مما أسماه البيان، quot;عصابة معروفة بالتوجه التغريبي المنحرف، قد تمكنت من التأثير على القرار، والتولي على بعض المؤسسات ذات الأثر الكبير في هوية المجتمع ومستقبلهquot;.

واللافت كذلك، وكجزء من الظاهرة نفسها أمران: الأول هو غياب أسماء رموز التيار الديني عن هذه الحملة، من أمثال عايض القرني، وسلمان العودة. وقد عزا المحامي عبدالرحمن اللاحم ذلك إلى ما اعتبره انقساماً داخل التيار. حيث لاحظ في مقالة له في صحيفة quot;الوطنquot; السعودية الأسبوع الماضي أن الأغلبية الساحقة ممن وقعوا على ما يعرف مثلا ببيان الـquot;61quot; (وهو البيان الثالث المشار إليه) هم من الأسماء غير المعروفة، ما عدا اسم ناصر العمر. وما ذهب إليه اللاحم قد يكون صحيحاً. لكن قد يكون في الأمر شيء آخر. المهم، والجدير بالملاحظة، أن نغمة كل البيانات التي صدرت حتى الآن توحي بأن التيار تسيطر عليه حالة من الخوف من التغيرات التي حصلت للمجتمع السعودي في السنوات الأخيرة، وهي تغيرات كبيرة، خاصة وأنها تغيرات تترافق مع تغيرات أخرى عميقة لا زالت تعصف بالمنطقة العربية. من أهم هذه التغيرات أن تجربة التنمية التي عرفها المجتمع السعودي خلال الثلاثين سنة الماضية أفرزت جماعات وطبقات اجتماعية جديدة: رجال وسيدات أعمال، مهنيون ومهنيات، أساتذة وأستاذات في مختلف جامعات المملكة، ومجتمع طلابي يتجاوز عدده أكثر من خمسة ملايين طالب وطالبة. هذا إلى جانب بروز وتبلور فئات اجتماعية لم تكن معروفة من قبل، مثل الفنانين والفنانات بمختلف تخصصاتهم، والكتاب، والصحفيين من الجنسين. ثم لا ننسى في السياق نفسه أن ما حققته المرأة من مكتسبات في مجال التعليم والبحث فرض موضوع فرصة المرأة وحقها في سوق العمل، وبما يتناسب مع تلك المكتسبات. هذه وغيرها من التغيرات العميقة في بنية المجتمع تتطلب ثقافة مختلفة عما كانت عليه ثقافة المجتمع في مرحلته التقليدية، ومفاهيم تتناسب مع احتياجات الفئات الاجتماعية الجديدة، وتعبر عن تطلعاتها. عندما ننظر إلى الموضوع من هذه الزاوية تتضح لنا طبيعة المخاوف التي تسيطر على من يمثلون الثقافة التقليدية، ومنهم أصحاب التيار الديني. وهي مخاوف متوهمة في أحسن الأحوال نتيجة للتمسك بمفاهيم تقليدية بالية لا تستطيع استيعاب طبيعة ما يحدث من تغيرات للمجتمع، وهي تغيرات طبيعية، وعدم قدرة على تفهمها واستيعاب دلالتها. وفي أسوأ الأحوال هو خوف مما تحمله هذه التغيرات من تهديد لما يتمتع به أصحاب التيار الديني من مكتسبات اجتماعية وسياسية. هناك مخاوف أخرى مرتبطة بقناعات موروثة يخشى أن تتعرض للاهتزاز ولخطر التداعي أمام ما يحدث للمجتمع، وما يعصف بالمنطقة من أحداث تاريخية كبيرة.

ولذا فإن السبب الأهم في موقف التيار الديني المعادي للتغيير والتطور هو عجزه الواضح عن استيعاب طبيعة المرحلة، وما تتطلبه من قدرة على التكيف مع معطياتها. فهذا التيار لا يزال أسير مفاهيم وطروحات ورثها من الماضي، وليس لرموزه وللمنتمين إليه، بشكل عام، دور في بلورة هذه الطروحات وتلك المفاهيم. كذلك لا نستطيع تجاهل دور عامل المصلحة في هذا الموقف. فالتداخل بين المصلحة الاجتماعية والسياسية، وبين الموقف السياسي والثقافي أمر طبيعي.

الأمر الثاني واللافت هو اختفاء بيانات تمثل التيار الليبرالي مقابل الحضور الكبير حالياً لبيانات التيار الديني. هذا التخالف بين التيارين تزامن مع بداية عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز. قد يرى البعض أن هذا مرتبط بحقيقة أن الملك عبدالله هو ملك ذو توجهات إصلاحية، وهو كذلك، وأنه صاحب شعار quot;توسيع المشاركة السياسيةquot;، ومبادرة الحوار الوطني، والإنتخابات البلدية، وتأكيد الاعتراف الرسمي بالتعددية المذهبية والفكرية للمجتمع، وغيرها من الخطوات الإصلاحية. من ناحية أخرى، ارتبط التيار الليبرالي بمطالب الإصلاح، بما في ذلك الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والتعليمي... الخ. قد يفهم من ذلك أن أصحاب هذا التيار ليسوا في حاجة إلى إصدار بيانات الآن. في السياق نفسه، ربما بدا للبعض من أصحاب التيار الديني أن التقاء التوجه الإصلاحي للتيار الليبرالي مع توجهات الملك الإصلاحية يمثل مصدراً للتوجس والخيفة. وأوضح من عبر عن ذلك كان بيان الـquot;61quot;، خاصة ما جاء في الاستشهاد المشار إليه من أن هناك quot;عصابة معروفة بالتوجه التغريبي المنحرف، قد تمكنت من التأثير على القرار، والتولي على بعض المؤسسات ذات الأثر الكبير في هوية المجتمع ومستقبلهquot;. من الذي مكن لما يسميهم البيان بـquot;العصابةquot; ذات التوجه التغريبي المنحرف؟ الإشارة هنا، وبقية ما جاء في البيان، توحي بشكل واضح بأن المقصود بالعصابة هنا هما وزير العمل، الدكتور غازي القصيبي، ووزير الثقافة والإعلام، إياد مدني، ومن حولهما.

والحقيقة ليست كما تبدو. فالتيار الديني لا يزال يحظى بقاعدة شعبية أوسع مما يتمتع به التيار الليبرالي. ومحاولة التخويف الذي تعبر عنه بيانات هذا التيار يقصد منه الإيحاء بأن التيار الليبرالي غير معني بثوابت المجتمع، وهويته ومصلحته. وهذا مجرد ادعاء لا سند له. هناك اختلافات بين التيارين، واختلافات كبيرة حول مضمون المفاهيم التي تستند إليها ثوابت المجتمع وهويته، وهي اختلافات طبيعية ومشروعة، ولابد من قبولها، والتعايش معها كجزء طبيعي من البنية الثقافية للمجتمع. الإصلاحات المذكورة تمت في عهد الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز. والملك عبدالله، مثله مثل من سبقه من الملوك، هو رئيس الدولة، وملك لجميع السعوديين، الليبرالي منهم والمنتمي للتيار الديني، للسني والشيعي، للمرأة والرجل، للصغير وللكبير، للمتعلم والأمي، للغني والفقير، لرجل الأعمال وللموظف العادي، لرجل الدين، ورجل وامرأة العلم الحديث... الخ. وبقدر ما أن الملك عبدالله يتميز بحس إصلاحي، إلا أنه حس يمتزج بشكل واضح ومعلن بقناعة راسخة بالثوابت الإسلامية التي قامت عليها الدولة، وهو ما عبر عنه مراراً وتكراراً، قبل وبعد أن تولى الملك. وبالتالي فليس هناك ما يبرر التوجس من أن أي توجه إصلاحي تبديه الدولة يمثل ميلاً لهذا التيار أو ذاك، بقدر ما أنه يمثل إدراكاً لضرورة التغيير والإصلاح، وأن الدولة لا تستطيع التوقف عن النمو والتطور، ومواكبة تغيرات وتطورات المجتمع، وتغيرات العالم من حولها. لأنها من دون هذه الاستجابة ستجد الدولة نفسها أسيرة مرئيات وتوجهات متخشبة لا تستطيع معها الحركة في أي اتجاه.

أصحاب التيار الديني لا ينظرون إلى الأمر من هذه الزاوية. وهذا مفهوم. لكن ما لا يمكن فهمه أنهم في بياناتهم لجأوا إلى الادعاء، والتضخيم، والاتهام، والتحريض غير المبرر. وذلك في سبيل خلق حالة من الإثارة والتجييش. وليس من تفسير لذلك إلا أنه تعبير عن حالة خوف متوهمة يراد لها أن تسيطر على مزاج المجتمع ككل. ومن هنا تكمن خطورة مثل هذه البيانات. إن من حق أصحاب التيار الديني حرية التعبير الكاملة عن مواقفهم، وآرائهم وقناعاتهم كما يرونها. لكن اللجوء إلى توزيع تهم الانحراف، والتغريب، على مخالفيهم ليس من حرية التعبير بقدر ما أنه شكل من أشكال التحريض والاستعداء. وهذا لا يخدم المجتمع، ولا يخدم صورة الإسلام الذي باسمه يدبجون بياناتهم.