حكم البابا


لا يذكرني السجال الإعلامي السوري اللبناني الذي تم علي الهواء مباشرة وعبر شاشات الفضائيات العربية الأسبوع الماضي، بشيء أكثر من مشهد الشجار بين لوريل وهاردي، الذي يعتبر من كلاسيكيات الكوميديا في السينما، حيث يقوم كل منهما بتحطيم ممتلكات الآخر، فحين يخلع الأول باب منزل الثاني ويكسره يرد عليه الثاني بتحطيم باب سيارة الأول، ليعود الأول للرد بتكسير نافذة منزل الثاني، وتستمر معركة التدمير بينهما بالتبادل، لينتهي المشهد بمنزل الأول محطماً، وسيارة الثاني مهشمة،

وإذا كان الدمار الذي ألحقه لوريل وهاردي بممتلكات بعضهما، منح فن الكوميديا أحد مشاهده الاستثنائية التي لم تفقد قدرتها علي الاضحاك لا بمرور الأجيال ولا بتكرار المشاهدة، فإن السجال التلفزيوني السوري اللبناني، عدا عن كونه يفتقد متعة الاضحاك التي يوفرها مشهد شجار لوريل وهاردي، لن يربح منه أحد الفريقين المتساجلين شيئاً إلا التدمير لبعضهما البعض، فضلاً عن كون الفريقين المتساجلين ليسا متكافئي القدرات والمواهب في إدارة تكنيك المشاجرة الاعلامية التي لم تعد محصورة بالوسائل الاعلامية اللبنانية والسورية، وتوسعت لتشمل كل الفضائيات العربية، فلأن الطرف اللبناني هو نتاج محطات المستقبل والـ LBCI والمنار والـNEWTV والـNBN والـANB باختلافها وتناقضها وتنوعها، وليس ملزماً في حديثه بعدم تجاوز خطوط الإطارات التي تطبع داخلها افتتاحيات جرائد النهار والسفير والمستقبل والديار والشرق واللواء والبيرق والأخبار ولديه حرية التحرك بينها، ويملك حق الحوار والمجادلة والاختلاف مع مقدمي برامج كلام الناس والحدث والاستحقاق والأسبوع في ساعة وبلا رقيب وسجال، ومحللوه السياسيون مختلفون ومتنوعون كما لو أنهم من انتاج شركة نوكيا، بعضهم مزود بكاميرا، وبعضهم لديه ميزة البلوتوث، وآخرون يمتلكون ميزة الـMP3 وأضعفهم يملك علي الأقل خيارات في نغمات الرنين

، ولذلك فهو أكثر قدرة علي المناورة والحوار من الطرف السوري الذي هو نتاج وزارة الإعلام السورية التي تسير علي هدي السنة النبوية في تفضيل التثليث في عدد وسائلها الاعلامية، فقنوات التلفزيون السوري الثلاث الأولي والثانية والفضائية ليس بينها أي اختلاف سوي في شعاراتها التي تظهر علي شاشاتها، وملتزم ليس فقط حرفياً بنص افتتاحيات صحف سورية الثلاث تشرين والثورة والبعث الموحدة ـ التي يستطيع قارئها أن يكتفي بها كملخص لكل محتوياتها ـ بل ملتزم أيضاً في ترداده لخطاب هذه الافتتاحيات بالتمهل عند الفاصلة، والتوقف عند النقطة، وإظهار الدهشة علي وجهه عند إشارة التعجب، واتخاذ مظهر الغبي عند إشارة الاستفهام بدافع ذاتي تقف وراءه غريزة البقاء، وبرامجه الحوارية السياسية ثلاثة هي دائرة الحدث ونوافذ وجهات الصحافة ليست بينها فوارق إلا باسم المذيع أو المذيعة، ووحدة آراء المقدم والضيف وغياب أي نقطة خلاف بينهما، ومعرفتهما الكاملة بما سيقوله كل منهما تجعل المشاهد يسأل دائماً ماداموا متفقين بالآراء إلي هذه الدرجة من التطابق، ومادام المذيع يعرف آراء الضيف إلي الحد الذي يساعده غالباً في إنهاء جملته، والضيف يسبق المذيع أحياناً في تكملة سؤاله، لماذا يتحاورون علي الشاشة؟ ولهذا يشبه المحللون السياسيون السوريون التلفون القديم الأسود ذا القرص الدائري والرنة الموحدة، الخالي من أي ذاكرة للتخزين، ولايملك ميزة سوي الارسال والاستقبال.

ولو كان لي رأي أو مشورة في اختيار المحللين السياسيين السوريين الذين سيظهرون علي شاشات الفضائيات العربية، ليناقشوا ويحللوا لا ليدافعوا ويهاجموا، وليقدموا عرضاً في الأداء الحواري لا تمارين في استخدام ألفاظ الشتيمة، وليمنحوا المشاهد المتعة الروحية التي تعطيها متابعة جلسة من التساجل الزجلي، لا المشاعر الحيوانية التي تثيرها رؤية مباراة في المصارعة الحرة، لبحثت أولاً في طريقة زواجهم، فإن كانوا قد تزوجوا بعد علاقة حب، لابسبب صلة قربي أو عن طريق خطبة تقليدية، واستطاعوا اقناع زوجاتهم بأنفسهم لا بمناصبهم أو ثرواتهم لاعتبرت أنهم قطعوا نصف المسافة في الطريق إلي الشاشة، أما النصف الثاني رغم صعوبته فيمكن تدريبهم عليه بإخضاعهم لدورة في احترام الرأي الآخر حتي لو كان شتاماً، لأن كل ما يقوم به المحللون السياسيون السوريون علي الشاشات اليوم من أداء في العصاب والشتم ورفع الكلفة والتماهي الكامل مع الرأي الرسمي سببه ليس عدم احترامهم للرأي الآخر، بل عدم ايمانهم أساساً بوجوده، وما قدمه الدكاترة فيصل كلثوم وعماد فوزي الشعيبي ومحمد حبش والسيد أحمد الحاج علي الأسبوع الماضي علي شاشتي الجزيرة و العربية ، ربما يكون مناسباً لنمرة في سيرك، أو لدور في مسرحية لناجي جبر، أو للحلول مكان الرجال الذين كانوا يظهرون في أفلام الأسود والأبيض العربية القديمة واقفين خلف المرحومين توفيق الدقن ومحمود المليجي، أكثر من مناسبته لنقاش سياسي أو حوار فكري أو شاشة تلفزيونية، ومشاهدهم يشعر عقب الانتهاء من سماعهم بالوهن والارهاق الجسدي كما لو أنه أكل علقة، بدلاً من إحساسه بأنه سمع فكرة أو تلقي رداً أو اقتنع بموقف، والمواقف التي ظهر هؤلاء علي الشاشات للدفاع عنها أصبحت أضعف بعد كلامهم وبسببهم.

فيلم عن حسن نصر الله في قناة الجزيرة:

كيف تمدح شخصاً بانتقاده؟

شاهدت الأسبوع الماضي أيضاً علي قناة الجزيرة فيلم (حسن نصر الله: ثوابت المقاومة أم متغيرات السياسة) الذي أعاد فيه الصحافي السوري محمد منصور انتاج فيلم كان زميله نبيل الملحم قد أنجزه عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وبغض النظر عن ملاحظاتي الفنية علي الفيلم، التي يعود سببها إلي المادة المصورة الموجودة في النسخة الأساسية للفيلم، والتي تختلف جودتها من مشهد إلي آخر، ومن لقاء إلي ثان، بسبب غياب الحرفية واعتماد الهواة بدلاً من المهنيين، إلاّ أن مافعله محمد منصور من تقديم صورة السيد حسن نصر الله كبشر يمشي علي الأرض، يصيب ويخطئ، بدلاً من تصويره كملاك بأجنحة واضحة كما شاهدته في نسخة فيلم نبيل الملحم، نقلت الفيلم من حالة قصيدة الغزل وأسلوب العمل الإعلاني إلي خانة الفيلم الوثائقي، ولم تنتقص من صورة أمين عام حزب الله، بل قدمتها بشكل يجعل حتي من يعادونه يستمرون في متابعة الفيلم باعتباره متوازناً، فمن المؤكد أن الطريقة التي تريد أن تمدح فيها شخصاً عبر انتقاده أذكي بما لا يقاس من سذاجة تأليهه.

فعل محمد منصور بفيلم نبيل ملحم ما فعله المرحوم ممدوح عدوان بنص مسلسل هاني السعدي دائرة النار، فعندما طلب من عدوان تعديله بعد قراءته، قال بأن الطريقة الممكنة والوحيدة لاصلاح عيوبه هي قلب صفحاته إلي وجهها الآخر الأبيض وإعادة كتابته، وهكذا فعل.