خيري منصور


تتردد في هذه الأيام الرمادية عبارة الزمن الجميل في معظم المناسبات التي تتعلق بالفن والحب وحتى السياسة، ورغم اعترافنا وإقرارنا التام بأن أي زمن يقارن بزمننا سيبدو فردوساً مفقوداً إلا أن النوستالجيا ليست دائماً على حق.

فمنذ أقدم الأزمنة كان الناس يتصورون الماضي على أنه الأبهى والأجمل والأصدق، لهذا قسّم فلاسفة الماضي ومنهم هزيود الأزمنة كما تقسم الفصول، لكن الربيع هو الذهب والصيف هو الفضة والشتاء النحاس والخريف القصدير.

إن الحنين الى الماضي يخفي سراً قلما يبوح به الناس، وهم يذرفون الدموع على الفائت من أيامهم، هذا السر هو حنينهم لأعمار قضمها الزمان، وإلى صبا ولّى وشباب اعتراه الذبول، اضافة الى أن الإنسان وهو صغير يصاب بالدهشة إزاء الكثير من المشاهد والمواقف، ثم يفقد بمرور الوقت هذه الدهشة، ويصبح كل شيء متكررا ومألوفا، وحين يندلع الحنين في دمه الى الماضي لا يدرك ان هذا الحنين يتجه سراً نحو أيام العافية، حيث الحيوية والأمل ووجود مساحات مضاءة من المستقبل تلوح عن بُعد.

وثمة استثناءات بشرية يكون حنينها الى المستقبل، وهو الحنين الفيروزي الغامض الذي لا يعرف المسكون به الي أين يتجه، وهو ايضا ما قال عنه الشاعر ناظم حكمت: ان أجمل الأبناء لم يولد بعد وأجمل الأغاني لم تُغنّ بعد، فالأبهى، هو القادم وليس الغارب؟

ان من يتباكون اليوم على زمن أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وسينما الأبيض والأسود الرومانسية ينسون ان الناس الذين عاشوا زمن هؤلاء خصوصا منذ بواكيرهم، كانوا يسمون زمن الثلاثينات من القرن العشرين الزمن الجميل.

ويبدو أنه نظام زماني يشبه نظام الموجات التي تتعاقب لكنها تتكسر قبل أن تبلغ الشطآن.

إن ما يبقى من الماضي سواء تعلق بذاكرة الفرد او ذاكرة الأمة هو ذلك الشّهد المصفى وكل ما هو منزوع الألم لأن مرور الأيام وتنامي النسيان ليس آفة بقدر ما هو نعمة إذ لولاه لتوقف الناس عن النمو عند أول مصيبة أو أول فقدان.

وكلما كانت الأيام التي نعيشها أشد سواداً أوغل الماضي في بياض الياسمين والزنيق، رغم انه قد يكون أقل سوءاً وليس أجمل، وما كان للمدن الفاضلة (اليوتوبيات) ان تظهر الى الوجود لولا أن الزمن الذي عاشه أصحابها وعانوا شقاءه كان زمناً راذلاً بامتياز، فعلى قدر سوء الواقع يكون جُهد الخيال للتعويض، حتى لو كان وهمياً، ومجرد سراب.

ان الأزمنة كلها فيها الجميل والقبيح، لكن بعضها يكون من ولد فيه سيئ الطالع، لأن جماله شحيح، والقبح فيه يثرثر في كل مكان.

ما نخشاه هو أن تتحول هذه الأيام الرمادية المثقلة بالشقاء الى زمن جميل بالنسبة للأيام المقبلة، فالأمر نسبي ولدينا من القرائن في هذه الأيام ما يدفعنا الى توقع الأسوأ، فالمسألة ليست تشاؤماً أو تفاؤلاً أو حتى تشاؤلاً.

وأحيانا يكتفي المرء ببيضة فاسدة واحدة كما قال فيكتور هوجو ليحكم على سلة البيض، وليس من المعقول أن يجربها كلها.