لندن: وحدة أبحاث laquo;الشرق الأوسطraquo;


العاصفة التي أثارها كلام البابا بنديكتوس السادس عشر خلال ملتقى كنسي بحثي بجامعة ريغنزبورغ جنوب ألمانيا، لم تفاجئ على الأرجح راصدي شؤون حاضرة الفاتيكان والملمين بميوله الفكرية واللاهوتية المحافظة. فالكاردينال الألماني، جوزيف راتسينغر، الذي انتخب يوم 19 ابريل (نيسان) 2005 رأساً للكنيسة الكاثوليكية، خلفاً للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني، بعدما كان أمضى قرابة العقدين في أروقة الفاتيكان حيث شغل منصب عميد معهد الكرادلة ورئيس التجمع من أجل ميثاق الإيمان.

وطوال هذه الفترة عرف عنه أنه من اللاهوتيين الكاثوليك المتشددين والمحافظين مذهبياً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن راتسينغر غدا لدى انتخابه الحبر الأعظم الجديد وسادس بابا ألماني يشغل هذا المنصب، والأول منذ القرن الحادي عشر. ولكن ما يثير استغراب البعض، بغض النظر عن النية الصادقة في هذا الموضوع، أن البابا تطرق إلى النص القديم المثير للجدل، والمسيء إلى الإسلام ورسوله، من دون التنبه إلى الحساسية التي بات يتلقى فيها العالم الإسلامي الانتقادات أو التلميحات الموجهة للدين الإسلامي، وهذا مع أن ردة الفعل الواسعة والعنيفة في طول العالم الإسلامي وعرضه على نشر مطبوعة دنماركية الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد laquo;صraquo; ما زالت ماثلة في الأذهان.

ولد جوزيف ألويس راتسينغر يوم 16 أبريل 1927 في بلدة ماركتل آم إين بولاية بافاريا (جنوب ألمانيا) قرب الحدود النمساوية، في عائلة من الطبقة المتوسطة، وكان أبوه ضابط شرطةً. وكان جوزيف الولد الثالث والأصغر لوالديه، بعد شقيقه جيورج وهو كاهن وموسيقار سبق له أن كان مديراً للجوقة الكنسية في مدينة ريغنزبزرغ وما زال على قيد الحياة، وشقيقته ماريا التي توفيت عام 1991 من دون أن تتزوج، وكانت لفترة طويلة تدير بيت شقيقها الكاردينال (البابا الحالي). أما عم والد البابا الحالي فالسياسي واللاهوتي جيورج راتسينغر الذي كان نائباً في البرلمان البافاري في القرن التاسع عشر.

وفقاً للمحيطين بسيرة البابا، فإنه أبدى منذ طفولته ميولاً مبكراً للكهنوت. والفترة الهتلرية أدخل راتسينغر إجبارياً وهو في سن الرابعة عشرة في laquo;الشبيبة الهتلريةraquo;، وعام 1943 عندما كان ما زال يدرس في أحد المعاهد اللاهوتية جند للمشاركة في الحرب العالمية الثانية بسلاح المدفعية المضادة للطائرات، ثم نقل إلى سلاح المشاة قبل أن يعفى من واجباته العسكرية لأسباب صحية. وعام 1945 مع وضع الحرب أوزارها بهزيمة هتلر عاد راتسينغر إلى دراساته اللاهوتية ملتحقاً مع شقيقه الأكبر بمعهد القديس ميخائيل في تراونشتين (بافاريا).

ثم انتقل إلى ميونيخ حيث درس في جامعتها العريقة laquo;المعروفة بجامعة لودفيغ ماكسيميليانraquo;. وفي الجامعة، رسم وشقيقه كاهنين عام 1953. وبعد التخرج بدرجة الـlaquo;هابيليتاسيونraquo; المؤهلة لدرجة بروفسور مارس التدريس الجامعي. وشملت حياته الأكاديمية التدريس في جامعة بون بين عامي 1959 و1963 ثم جامعة مونستر بين 1963 و1966، ثم جامعة توبينغن كأستاذ كرسي. وخلال فترة تدريسه القصيرة في توبينغن ألف كتاب laquo;مدخل إلى المسيحيةraquo; عام 1968 إلا انه سرعان ما قرر وهو اللاهوتي المحافظ الابتعاد عن أجواء توبينغن اليسارية الراديكالية عامي1967 و1968 في تلك الحقبة. وهكذا عاد إلى بافاريا عام 1969 حيث باشر التدريس في جامعة ريغنزبورغ، حيث الجو أقل راديكالية وأقرب إلى مزاجه.

وهناك أسس عام 1972 مجلة laquo;كوميونيوraquo; اللاهوتية مع كل من هانس أورس فون بالثازار وهنري دي لوباك وفالتر كاسبر. وتنشر هذه المجلة اليوم بـ17 لغة. وظل راتسينغر حتى انتخابه بابا يساهم بمقالات كبيرة ومتعددة فيها. ومما يستحق الذكر في هذه السياق أن راتسينغر كان غزير الإنتاج وبالغ النشاط طوال فترة تدريسه وأبحاثه. ولقد أسهم كمستشار laquo;في laquo;مجمع الفاتيكان الثانيraquo; وكباحث ومؤلف في بلورة عدد من المواقف إزاء القضايا الدينية والاجتماعية التي ناقشتها الكنيسة الكاثوليكية داخل ألمانيا وخارجها. وفي هذه المرحلة عرف على نطاق واسع في الأوساط الكاثوليكية كمفكر ولاهوتي محافظ يميني، وهو ما اسهم في قربه لاحقاً من البابا يوحنا بولس الثاني الآتي من دولة كاثوليكية، هي بولندا، ترزح تحت الحكم الشيوعية وتتوق للتخلص منه.

أصبح راتسينغر أسقفاً لأبرشية ميونيخ وفريسينغ عام 1963 وظل فيها حتى 1977. ثم اختير كاردينالاً بعد فترة قصيرة من ترقيته إلى منصب كبير أساقفة. وعام 1981 اختاره البابا يوحنا بولس الثاني لقيادة التجمع من أجل ميثاق الإيمان حيث ثبت سمعته المحافظة التي اكتسبها منذ عقد الستينات. وعام 1998 اختاره البابا يوحنا بولس الثاني عميداً معاوناً لمجمع الكرادلة، ثم عينه عميداً يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2002.

وعندما توفي يوحنا بولس البابا الـ265 للفاتيكان، وهو في سن الثامنة والسبعين، في اليوم الثاني من اقتراع مجمع الكرادلة فبات البابا الأكبر سناً منذ عام 1930 عندما اختير البابا اكليمنس laquo;كليمنتraquo; الثاني عشر الذي كان في سن الـ78 أيضاً لكنه يوم انتخابه كان يكبر بنديكتوس يوم انتخابه بثلاثة أشهر. يتسم البابا بنديكتوس السادس الذي يجيد ست لغات هي الألمانية والإنجليزية والفرنسية واليونانية واللاتينية والعبرية، بالتواضع كما يقول عنه عارفوه من رجال الدين كما يتميز بشخصية ساحرة. إلا أنه في المقابل، يعيش قلقاً جدياً إزاء الأخطار التي يعتقد أنها تهدد أوروبا والعالم المسيحي، وهو يعتبر أن في طليعة الأخطار التي تهدد بالقضاء على القيم المسيحية وبالذات في العالم الثالث؛ النزعات المادية والعلمانية.