جهاد فاضل


من حق الايرانيين ألا يصدقوا أنهم عبر حزب الله، وصلوا الي المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط، وأنهم حولوا لبنان الي ما يشبه منصة لإطلاق الصواريخ علي أمريكا عبر إسرائيل، وكذلك الي ما يشبه ورقة ثمينة في أيديهم يستخدمونها في صراعاتهم الإقليمية والدولية. ذلك ان لبنان بنظرهم لم يكن قبل عام 1982 - وهو عام ولادة حزب الله - سوي بلد بعيد عنهم لا تربطه بهم سوي روابط ثقافية وتجارية بسيطة. فصحيح ان الشيعة كانوا طائفة بارزة من طوائفه، ولكن هذه الطائفة لم تكن تشعر تجاه ايران بأية مودات روحية أو معنوية خاصة. فمثل هذه المودات كانت شيعة لبنان تكنها للنجف العراقي كمرجع روحي وحيد لهم. فإلي النجف، وعلي امتداد سنوات طويلة، كان يقصد طلبة العلم والفقه، ومنها كانوا يعودون علماء وفقهاء. ومع ان مدينة قُم وسواها من المدن الايرانية التي تضم ذخائر وأضرحة ومقتنيات دينية، كانت قريبة نسبياً من النجف، فإن هؤلاء الطلبة لم يكن يدور في بالهم زيارة هذه المدن، ربما انطلاقاً من شطر من بيت للمتنبي يقول فيه: ومن قصد البحر استقل السواقيا . فالنجف كانت هي البحر، او الأزهر بالنسبة للسنة، او الفاتيكان بالنسبة للمسيحيين الكاثوليك. ولم يكن سواها في منزلتها ابداً.

ولكن شيعة لبنان اكتشفوا ايران حديثاً تحت وطأة عاملين: اولهما تعذر الوصول الي النجف في عهد صدام حسين، وثانيهما قيام ثورة اسلامية في ايران تعمل علي تصدير الثورة الي الخارج، وتطرح المذهب الشيعي كمنقذ للبشرية مما تعاني منه، وكبديل لكل الايديولوجيات التي عرفها العالم في القرن العشرين. وكان من الطبيعي ان تهتم هذه الثورة التي تزعمها اية الله الخميني بشيعة لبنان وان تمدهم بما يحتاجون إليه من مال وسلاح، وأن تعمل علي إقامة جسر دائم بينها وبينهم. وكان مما ساعد ايران علي نجاح هذا الجسر، وعلي نجاح سياستها اللبنانية قبل كل شيء، أنه أُقيم عبر سوريا التي شكلت، وعلي مدي سنوات طويلة، حلفاً استراتيجياً وثيقاً له أسبابه ودوافعه المختلفة.

قبل عام 1982 كانت علاقة ايران بلبنان مجرد علاقة ثقافية وتجارية بسيطة. فإلي بيروت كانت بعض العائلات البرجوازية او الارستقراطية الايرانية تُرسل ابناءها للدراسة في الجامعات اللبنانية التي كانت تقتصر يومها علي جامعة القديس يوسف والجامعة الأمريكية. وكان ممن درسوا في لبنان الطالب شهبور بختيار الذي أصبح فيما بعد رئيساً لوزراء ايران. والي وقت قريب نسبياً كان في عداد أساتذة الجامعة الأمريكية ببيروت أستاذ التاريخ العربي الدكتور زين نور الدين زين، وأستاذ الأدب العربي الدكتور سهيل بشروئي، وهما ايرانيان من الطائفة البهائية.

وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي كان في عداد اساتذة الجامعة اللبنانية الدكتور محمد محمدي وكان يشغل في الوقت نفسه منصب الملحق الثقافي بسفارة ايران في لبنان. وكان محمد محمدي استاذ اللغة الفارسية التي لم يكن يُقبل عليها الا قلة قليلة من الطلبة اللبنانيين. ولم يكن في لبنان من يعرف الفارسية سوي أشخاص يُعدون علي أصابع اليد الواحدة منهم الدكتور فكتور الكك الذي درس وعمل في طهران زمن الشاه محمد رضا بهلوي. وهناك بالطبع تجليات أخري لمثل هذه العلاقة الثقافية بين لبنان وايران، منها ان دور النشر اللبنانية كانت تصدر القرآن الكريم وكتب نهج البلاغة وما إليها من الكتب الإسلامية الي ايران. ولكن مثل ذلك كان يحدث مع دول اسلامية كثيرة كأندونيسيا وباكستان وقرخيزيا والملايو، دون أن يخطر يوماً ببال اللبنانيين أن احدي هذه الدول سيكون لها ذات يوم ترسانة أسلحة جبارة تحتوي علي ما لا يُحصي من أدوات الفتك والدمار المُعلن منها فقط هو ثلاثون ألف صاروخ. وهذه الترسانة ليست للدولة اللبنانية، بل لأحد التنظيمات المذهبية المسلحة.

ولم تكن علاقة لبنان التجارية بإيران بأفضل من علاقته الثقافية، فالتجارة كانت السجاد، ومثل هذه التجارة كان التجار اللبنانيون يقيمونها مع بلدان كثيرة في أوروبا أو في آسيا الوسطي. صحيح ان آل سمسار زادة، وهم تجار سجاد ايرانيون، اتخذوا من لبنان مع الوقت وطناً لهم، إلا أنهم تحولوا لاحقاً الي لبنانيين، وربما الي نصاري لفرط انسباكهم في قوالب السوق اللبنانية، ولم تعد اصفهان او شيراز تعني بالنسبة اليهم سوي ماركة سجاد لا أكثر.. ذلك أن ما قدمه لبنان لهؤلاء التجار الايرانيين الأصل يفوق بكثير ما كان يمكن لايران ان تقدمه لهم في ايران حتي زمن الشاه.

والواقع ان هناك سبباً رئيسياً كان ينأي بشيعة لبنان عن الهوي الايراني هو تمسكهم الشديد بالعروبة. فعلي أحزاب هذه العروبة توزعت النخب والجماهير الشيعية اللبنانية، واندمجت أيما اندماج بهذه الأحزاب. وكان الحلم القومي العربي هو حلمها كما كان حلم كل العرب. فحزب البعث العربي، سواء بفرعه العراقي أو السوري، كان شباب الشيعة يؤلفون عموده الفقري. ويمكن قول مثل ذلك عن التنظيمات الناصرية بما فيها تنظيم المرابطون ذو الطابع السني. فقد كان افراد ميليشيا هذا التنظيم شيعة فقط لا غير. وتوزع شباب الشيعة ايضاً علي أحزاب عقائدية أخري كالحزب الشيوعي اللبناني. وقد لا يكون من المبالغة القول ان الطائفة الشيعية اللبنانية، وهي الطائفة الأكثر مذهبية في لبنان اليوم، كانت اقل الطوائف اللبنانية مذهبية.

هذا ان لم نقل انها كانت الطائفة اللاطائفية بامتياز نظراً لطابع السماح والانفتاح الذي كان ينبعث من سلوكها العام وفي سلوك أفرادها علي السواء. ومع ان الامام موسي الصدر العائد من ايران في مطلع الستينيات عمل علي ضبضبة ما أمكن من هذا الانتشار الشيعي، وجمعه في اطار تنظيم ذي طابع شيعي، إلا ان موسي الصدر بقي في إطار اللبنانية المحضة، ولم يربط شيعة لبنان بولاية اي فقيه خارج لبنان. كان ذلك زمن ايران الامبراطورية، وزمن الليبرالية والايمان المستنير المنفتح علي الاجتهاد والتأويل، لا زمن الاعتقال في أسر الماضي وإرباكاته. ولأن موسي الصدر لم يكن أسير أحد خارج لبنان، فقد شكل لبنان بالنسبة اليه المنبع والمصب. وربما بسبب هذه اللبنانية الرحبة والانسانية التي ميزت حركته، كما ميزت شخصيته نفسها، أُزيح موسي الصدر الذي كان زعيم الشيعية اللبنانية الصاعدة، كما أُزيح في الوقت نفسه تقريباً الشيخ حسن خالد مفتي المسلمين اللبنانيين.

واذا كانت ايران، او ولاية الفقيه، هي كلمة السر، أو مهوي القلب، لدي شيعة لبنان في الوقت الراهن، او لدي قسم كبير منهم، فقد كانت العروبة، وحتي الأمس القريب، هي كلمتهم السرية والعلنية، كما كانت مهوي قلوبهم، ومن اجل التأكد من ذلك يمكن للمرء ان يراجع تراث مجلة العرفان التي كان يصدرها في صيدا الشيخ أحمد عارف الزين، أو تراث مجلة العروبة لمحمد علي الحوماني، أو تراث الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ضاهر، وكلهم من علماء جبل عامل المحترمين. فالعروبة التي ازاحتها الايرانية من السوق الآن، كانت هي والإسلام القيمتين الأعلي تماما عند الشيعة اللبنانيين وعند سائر اللبنانيين والعرب علي السواء. وفي حياتي لم أشاهد اسلاماً سمحاً يفيض بالحب تجاه الآخر، كما شاهدته عند شيعة لبنان. لم تكن المذهبية او الفئوية، او الغرائزية، قد ولدت بعد. وكان التشيع عند الشيعة عبارة عن ولاء وجداني لآل البيت. وكان هذا الولاء موضع حب واحترام جميع اللبنانيين لأن تراث الإمام علي هو تراث اسلامي مستنير. والإمام نفسه هو أحد الخلفاء الراشدين الأبرار المشهورين بالورع والتقي والفضيلة.

ان من ينصت الي الخطاب السياسي الذي تبثه وسائل الإعلام الشيعية اللبنانية في السنوات الأخيرة، لا يجد ان العروبة واحدة من مفرداته. فالعروبة غائبة غياب الإمام الثاني عشر. أما الحاضر فهو عبارة الأمة دون تحديد، ودون الإشارة حتي الي الأمة الاسلامية. وهناك غياب آخر للبنانية ، الأمر الذي دعا البعض الي ضرورة استنهاض الروح اللبنانية في هذا الخطاب سعياً وراء ازالة الهجنة عن ملامحه والسعي الي توطينه، وما هكذا كان الأمر في خطاب النُخب الشيعية اللبنانية حتي بداية الثمانينيات من القرن الماضي. فالأمة كانت الأمة العربية لا أية أمة أخري. ولبنان كان القطر العربي الذي يفخر به اللبناني كما يفخر به العربي نظراً لما قدمه لأمته العربية من ناصع الخدمات والانجازات. ولم تكن ايران واردة في حسابات اللبنانيين الي أية طائفة انتموا، ما عدا طائفة تجار السجاد وطائفة بائعي الكتب. وكان الوارد هو لبنان والعروبة والإسلام كقيم عليا خالدة في الضمير اللبناني. ولم تكن ايران سوي بلد يقع علي تخوم الوطن العربي لجهة الشرق، مثله مثل تركيا علي سبيل المثال.

حققت ايران في السنوات الأخيرة انتصارات لا ينكرها أحد في لبنان. في ظروف معروفة من الجميع تمكنت من ان تزرع نفسها في قلوب أبناء احدي الطوائف اللبنانية الأساسية، أو في قلوب قسم كبير من أبناء هذه الطائفة، وبخاصة ابناء الريف والقري النائية. أمكنها ذلك بسبب انتكاسة المشروع القومي العربي، وغرق الكثيرين في وحل الطائفيات والمذهبيات. ونفذت الي ذلك بسبب انهيار القضية الفلسطينية، وانهيار لبنان ذاته. وقد بات لها في لبنان نفوذ كبير، لدرجة القول انه كان بيدها وحدها في بداية فصل الصيف الماضي قرار الحرب والسلم، وبيدها الآن، ونحن في فصل الشتاء قرار الحرب الأهلية في الداخل. ولم ينس اللبنانيون بعد ما قاله لهم رئيس وزرائهم فؤاد السنيورة عن لسان منوشهر متكي وزير خارجية ايران عندما زار لبنان قبل شهرين.

فقد قال منوشهر للسنيورة انه يعارض تسليم مزارع شبعا للأمم المتحدة كمخرج من الأزمة المعروفة. مع ان من المفترض ان مثل هذا الحل مقبول ومعقول، ومع ان من المفترض انه ليس لمنوشهر ان يقحم نفسه في مسألة تخص الدولة اللبنانية ولا تخص سواها. ولكن وزير الخارجية الايراني كان يريد بمعارضته تسليم مزارع شبعا للأمم المتحدة ابقاء مسمار جحا في الجسد اللبناني لأسباب معروفة.

ولكن علي الرغم من كل ما حققته ايران من انجازات علي الساحة اللبنانية، وهو هام بلا شك، فإنها لم تُقنع أحداً بأن وجودها طبيعي، أو معقول ومقبول، علي الأرض اللبنانية. شيء ما يفترض ان يشعرها بالغربة فوق أرض لبنان، شبيه بتلك الغربة التي شعر بها أبوالطيب المتنبي في شعب بوان. فمع ان المتنبي ولد شيعياً، إلا انه كان عروبياً بالدرجة الأولي، يُعلي انتماءه للعروبة علي أي انتماء آخر. فلما مر يوما بشعب بوان، وهي منطقة ايرانية ذات جمال طبيعي أخاذ، فتنته ربوعها ومس قلبه جمالها ولكنه هتف من قلبه وقد شعر كعربي بغربته فيها:

مغاني الشعب ويحك من مغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتي العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان..

هذا ما شعر به المتنبي وهو شيعي كما أشرنا، في بلاد ايران، وهذا ما يفترض ان يشعر به الايراني في بلاد لبنان، خاصة وأن لبنان بلد طوائف ومذاهب، لا بلد طائفة واحدة أو مذهب واحد. لبنان لجميع طوائفه لا لطائفة دون أخري، وهو ينشد مشروعا حضاريا متطلعاً الي الأمام لا منكفئا نحو الماضي او منغلقاً عليه. ولبنان ليس مجرد ساحة او مكان مثالي لتصفية حسابات ايران مع اعدائها وهو بلد له هوية واحدة هي الهوية العربية، لا أية هوية أخري.