خليل العناني
يخطئ من يظن أن إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين سوف يقلل من موجة العنف الطائفي في العراق. وحجة واهية تلك التي تذرع البعض بها لتبرير قرار التعجيل بإعدام صدام رغم عدم محاكمته على بقية الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه. فما حدث، وبعيداً عن رمزيته الفجة، لا يشي بأي نية حقيقية للتخلص من الإرث الطائفي laquo;الثقيلraquo; الذي غرسته حقبة صدام حسين، وأنضجته سياسات ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
فقد جرى إعدام صدام في مشهد تفوح منه رائحة الطائفية، لم يراع فيها أي بعد laquo;وطنيraquo; أو إنساني، في حين تعمد البعض إعطاء المشهد قدراً من الإثارة بالتهجم على صدام ومحاولة استفزازه حتى قبل وفاته.
كان لإعدام صدام أن يصبح أكثر إفادة للعراقيين، إذا ما تم بشكل أكثر لياقة وآدمية، وإذا ما تحلت محاكمته، بالنزاهة والشفافية. وكان له أن يدشن عهداً جديداً في العراق قوامه المصالحة laquo;الحقيقيةraquo; بين أبناء الشعب العراقي، وأن يقدم نموذجاً عربياً للديموقراطية laquo;التوافقيةraquo;، خالٍ من تشوهات المرحلة البعثية بكل سيئاتها. بيد أن بعض العراقيين أبى التخلص من مرض الطائفية laquo;الخبيثraquo;، معتقداً أن إعدام صدام، على نحو ما جاء، قد يسدد جزءاً من فاتورة laquo;التمييزraquo; التاريخي بين الطوائف العراقية المختلفة.
كما كان لإعدام صدام أيضا أن يقدم فرصة تاريخية للخروج من وطأة الحرب الأهلية التي يغط فيها العراق الآن، خاصة إذا جاء في إطار محاكمة laquo;دوليةraquo; على غرار ما حدث مع معظم الطغاة والمستبدين السابقين حول العالم. حينئذ كان قرار الإعدام سيبدو كما لو كان تعبيراً عن رغبة شعبية، وليست طائفية، في التخلص من أكثر حقب التاريخ العراقي سوءاً، ولم يكن ليعطي فرصة لأحد كي يتعاطف مع صدام، فهل تعاطف الصرب والأوروبيون مع سلوبودان ميلوسوفيتش عندما جرت محاكمته وتمت إدانته بارتكاب جرائم حرب؟ وهل تعاطف الشعب التشيلي وشعوب أميركا اللاتينية مع الطاغية الديكتاتور أوغستو بينوشيه؟
بيد أن ما حدث كان مجرد حالة نرجسية laquo;للتشفيraquo; من صدام، تضمر بداخلها رغبة laquo;فرديةraquo; في تصفية حسابات تاريخية لدى البعض باتجاه الطائفة السنية في العراق.
ملابسات إعدام صدام، قدمت دليلاً جديداً على مدى وعورة التجربة العراقية، ومقدار ما أصابها من وهن طائفي وتناحر مذهبي، بات يمثل الخلفية الرئيسية للعلاقة بين الفرقاء. في حين تبدو محاكمة laquo;الدجيلraquo;، التي لم تكتمل فصول مداولاتها، كما لو كانت مجرد غطاء لقرار معروف سلفاً بالإعدام، لم يتورع البعض عن الضغط لاستصداره.
ولعل أسوأ ما في مشهد إعدام صدام، أن يجري تسويقه كما لو كان laquo;نصراًraquo; سياسياً يعزز مكاسب طرف في مقابل الأطراف الأخرى في العملية السياسية، وذلك من دون اعتبار لتداعيات مثل هذا الحدث على الذاكرة laquo;الطائفيةraquo; لدى بعض المتأثرين بمشهد الإعدام، وهو ما قد يعد تكريساً لنفس الاستراتيجية التي اتبعها صدام من قبل لضمان قدرته على حكم البلاد.
ربما أزاح إعدام صدام الكثير من مخلفات الحالة laquo;السيكولوجيةraquo; لدى البعض، خصوصاً ممن تعرضوا للقهر والظلم إبان حكمه، بيد أن أحداً لم يحاول تفادي ظهور مثل هذه الحال لدى الطائفة السنية، خاصة أن مشهد الإعدام قد أوحى للبعض منهم بمدى النفور الشيعي، والرغبة في الانتقام من مرحلة صدام، بكل رموزها وأفرادها.
فعلى مدار أكثر من ربع قرن، وتحديداً منذ وصول صدام للحكم عام 1979، لم تصل الحالة laquo;الطائفيةraquo; إلى مستواها الراهن، ربما استخدم صدام كل وسائل القمع المادي والمعنوي لجميع المخالفين له سواء من السنة أو الشيعة أو الأكراد، بيد أن laquo;تديينraquo; العلاقات السياسية، و laquo;تسييسraquo; العلاقات المذهبية لم يحدث إلا بعد سقوط نظام صدام حسين، وذلك بفضل عاملين رئيسيين، أولهما: laquo;الجهلraquo; الأميركي الفج بطبيعة العلاقة laquo;التاريخيةraquo; بين الفرقاء العراقيين، وعدم قدرة الإدارة الأميركية على لجم النزعات الطائفية لدى البعض منهم. وثانيهما، إصرار بعض هؤلاء الفرقاء على إعادة تعريف ذواتهم laquo;السياسيةraquo; بعيداً عن فكرة المواطنة وقبول الآخر. وكانت النتيجة، هيمنة laquo;الولاءاتraquo; المحلية، في صيغتها الدينية والعشائرية، على نظيرتها laquo;القوميةraquo; في إطارها الوطني، والتعاطي مع هذا الآخر بوصفه أقلية، لا يحق لها التمتع بنفس مزايا العهد الجديد في العراق على غرار ما تحظى به الأغلبية الشيعية.
الآن أضيف بعد جديد للمكون الطائفي الذي خلفه الاحتلال الأميركي للعراق، فضلاً عن الذاكرة الجماعية للشيعة والأكراد، المعبأة تاريخياً تجاه السنة، وهو مشهد إعدام صدام حسين، الذي من شأنه أن يقوض أي مساع لرئيس الحكومة العراقية نوري المالكي لطرح أي مشروع للمصالحة الوطنية في العراق، وهو الذي فشل منذ مجيئه للسلطة قبل نحو ثمانية شهور في تجسير الفجوة الكبيرة بين السنة والشيعة، وإعادة بناء العلاقة على أساس من الثقة واحترام الآخر بوصفه شريكاً في الحكم، وليس مجرد عبء يجب التخلص منه.
إعدام صدام يكشف جانباً مهماً من ملامح العلاقة بين الطوائف العراقية في مرحلة ما بعد صدام، فما يحدث منذ وقوع العراق تحت وطأة الاحتلال قبل أكثر من ثلاثة أعوام ونصف عام، هو بمثابة استبداد فعلي، ولكنه استبداد الأغلبية، حيث تجري عمليات إقصاء متعمدة للأقلية السياسية، أو بالأحرى للقبائل العربية السنية من المعادلة السياسية، في حين فشلت التجربتان الانتخابيتان اللتان مر بهما العراق في إعادة توزيع السلطة بشكل عادل ومنطقي بين الطوائف العراقية الكبرى الثلاث.
مأساة السُنة في العراق لا تتمثل في الحصول على مناصب سياسية أو حكومية، بقدر ما هي في عدم القدرة على العيش بأمان وسط سيل من الذكريات التاريخية السيئة التي يجري تقليبها وإعادة إنتاجها من أجل تصفية حسابات سياسية مع النظام السابق، لم يكن لكثيرين من السنة أية علاقة بها، بل لربما كانوا بين ضحاياها.
الآن يجري القتل على الهوية في العراق من دون وازع ديني أو أخلاقي، وهناك ميليشيات عسكرية تتصيد كل من يختلف معها دينياً أو مذهبياً، وتمارس عملياتها في وضح النهار، متكئة في ذلك على علاقات وثيقة مع أجهزة الأمن العراقية، وذلك من دون محاسبة أو رادع من أحد.
في حين يجري الحديث عن وجود قوائم laquo;تصفيةraquo; لدى بعض هذه الميليشيات، تعمل على تنفيذها وفق جدول زمني محدد، كما لو كانت عمليات laquo;ثأريةraquo; للانتقام من أشخاص بعينهم. لذلك ليس غريباً أن تتراوح حصيلة القتلى يوميا في العراق ما بين خمسين وسبعين شخصاً وكأن هناك حصة يومية من القتل يجري تنفيذها ويصعب التراجع عنها.
ما يجري في العراق لا يختلف كثيراً عن عمليات laquo;التطهير العرقيraquo; التي جرت في مناطق أخرى من العالم وأهمها في البوسنة والهرسك وصربيا أوائل التسعينات من القرن المنصرم. في حين يصبح الفشل مصير أية محاولة لوقف مثل هذه الأعمال الطائفية.
ويستغرب المرء من فشل جميع عمليات التفاوض التي جرت لاحتواء السنة في العراق، وكأن ثمة أطرافاً تدفع باتجاه إفشال أي محاولة قد تجري في هذا الإطار. وتكفي الإشارة هنا إلى فشل جميع جولات المصالحة والحوار التي يجري الإعلان عنها بين الفينة والأخرى، في إنهاء مخاوف السنة وتذليل العقبات التي تعترض طريق دمجهم في الحياة العامة.
وبدلاً من أن يصبح العراق نموذجاً للديموقراطية laquo;التوافقيةraquo;، بات نموذجاً فجاً للديموقراطية laquo;القسريةraquo; التي يجري فيها جر الأطراف المختلفة إلى دائرة مغلقة يتم فيها الصراع على أسس عرقية ومذهبية. وسيشهد التاريخ يوماً أن ما جرى الترويج له في العراق على أنه نظام ديموقراطي لم يكن سوى laquo;مخلوقraquo; مشوه لا يعرف للديموقراطية سبيلاً، يمكن إرجاع الفضل في إيجاده إلى الرئيس الأميركي جورج بوش وزمرته من laquo;المتهورينraquo; الجدد.
التعليقات