الأثنين 8 يناير 2007


جابر عصفور


نحن لا نأخذ إلا ما نعطيهrlm;,rlm; وفي أعماقنا وحدها تحيا الطبيعة كلمات لا أزال أذكرها من قصيدة للشاعر الإنجليزي كولردجrlm;,rlm; تؤكد أن كل فعل من أفعال الإدراك إنما هو نتيجة لرغبة فاعل الإدراك المسبقة التي ينطوي عليها في علاقته بالأشياءrlm;,rlm; خالقة فيه نوعا من التوقع الذي يجعله يستجيب إلي الخارج الذي هو في داخله بمعني من المعانيrlm;.rlm; هذه الذاتية الموجودة في فعل الإدراك عند الرومانتيكيين الذين ينتمي إليهم كولردج موجودة بأكثر من معني في نظريات الاستقبال الحديثة التي تجعل الذات تتوقع أن تجد ما في داخلها خارجهاrlm;,rlm;

وأن تري في ما يقع خارجها ما سبق أن فكرت فيه وشعرت به وتوقعته توقع الرغبة التي تتحول إلي واقعrlm;.rlm; هذا المعني دار في خاطري وأنا أفكر في انتقائية الذاكرة الثقافيةrlm;,rlm; فأنتبه إلي أن الذاكرة الثقافية لا تستعيد غالبا إلا ما هو صدي لاهتمامها أو همومها أو آمالها في الحاضرrlm;.rlm; أقصد إلي أن الذاكرة الجمعية للثقافةrlm;,rlm; في كل لحظة من لحظات انشغالها أو همومهاrlm;,rlm; تتحول إلي ما يشبه حجر المغناطيس لا يجذب إليه إلا كل ما يتجانس معهrlm;,rlm; فيعيد إخراجه من النسيانrlm;,rlm; ويخرجه إلي عالم التذكرrlm;,rlm; ويلح عليه بقدر أهميته لحاضر الذاكرةrlm;,rlm;

وتجانسه مع طموحاتها وهمومها وما تنتهي إليه في واقع يشدها إليه ويفرض حركته عليهاrlm;,rlm; فتستجيب إليه الذاكرة الثقافية الجمعيةrlm;,rlm; وتستخرج من ثناياها ما يتجاوب مع حركة هذا الواقع ويستجيب إليهrlm;.rlm; والنتيجة أن فعل الاستدعاء الذي تقوم به هذه الذاكرة في علاقتها بطبقات الوعي واللاوعي الجمعي والفردي التي تختزن المراحل المختلفةrlm;,rlm; المتجانسة أو المتصارعة أو المتضادة فيما بينهاrlm;,rlm; محكوم بحركة الواقع وبحثه عن أشباهه في ماضيه الذي تحمله الذاكرة الجمعية وتنطوي عليهrlm;.rlm;

ولذلك من الصعب لحاضر ذاكرة ينحاز إلي النقل ضد العقلrlm;,rlm; وإلي التقليد ضد الاجتهادrlm;,rlm; ويؤثر الاتباع علي الابتداعrlm;,rlm; أن يبحث عن نقائضهrlm;,rlm; في تراثه الذي تخزنه ذاكرته الثقافية الجمعيةrlm;,rlm; فلا تستدعي الذاكرة التقليدية لهذا الواقع الذي يحركها ويوجه حركتها إلا ما يتناسب معهrlm;,rlm; وما يؤدي بها إلي تجاهل مخزونها العقلانيrlm;,rlm; ولحظات تاريخها الذي اضطهد فيه العقلrlm;,rlm; وشاع فيه التقليدrlm;,rlm; وكانت الأولوية فيه للاتباعrlm;.rlm;

وعلي النقيض من ذلك يستعيد حاضر الذاكرة المثقلة بحاضرها المريض ما يشبههrlm;,rlm; ويدعم حركته المعادية للعقلrlm;,rlm; وهو بدوره يحتفي بما تؤديه إليه الذاكرةrlm;,rlm; فيعيد طبع كتب وظيفتها تمجيد النقل وامتداحه وذم العقل والتشكيك في قدراته وضرورة قمعه بما لا يجعله يشتط في التفكيرrlm;,rlm; أو حتي يستقل في حركتهrlm;.rlm; ويظهر ناتج ذلك في المطبوعات السائدةrlm;,rlm; ومنها الكثير الذي نراه علي الأرصفة من كتب تتحدث عن عذاب القبر أو الثعبان الأقرعrlm;,rlm; أو فوائد التقليد ومضار الابتداعrlm;.rlm;

ويحدث العكس تماماrlm;,rlm; عندما تتغير حركة الحاضرrlm;,rlm; وتنقلب توجهات الواقعrlm;,rlm; ممتلئا برغبة التقدمrlm;,rlm; وحيوية العقلrlm;,rlm; وغواية التجريب الذي يؤدي إلي الابتكارrlm;.rlm; وعندئذrlm;,rlm; تخرج الذاكرة الجمعية كنوزهاrlm;,rlm; وتستعيد مخزونها العقلاني الذي يبدأ بتراث المعتزلةrlm;,rlm; ويمتد ليشمل تراث الفلاسفة الذين أعلوا من شأن العقلrlm;,rlm; وتحرروا من التقليد بما فتح أمامهم من آفاق الاجتهاد ما أضاء عصور التراث التي عرفت قدر العقلrlm;,rlm; وأكدت حريته في التفكير والابتداعrlm;.rlm;

عندئذrlm;,rlm; تتجاهل الذاكرة التراث المضاد الذي يمكن تلخيصه في القاعدة التي تقولrlm;:rlm; من تمنطق تزندقrlm;,rlm; وتمحو الذاكرة من مراياها تعذيرrlm;(rlm; تعذيبrlm;)rlm; الذين تفلسفواrlm;,rlm; ومشاهد حرق كتب الفلسفة وعلوم الأوائل التي جعلها متعصبو الماضي علامة الخروج عن الملةrlm;,rlm; ودليلا علي ما يوجب العقاب الذي لابد منه لكل من خرج علي الإجماعrlm;.rlm;

ولولا ذلك ما تكاثر طبع كتب عصور الانهيار والضعف والأخطار الخارجيةrlm;,rlm; في الحاضر الذي يعاني من الضعف والخوف والشعور بالخطرrlm;,rlm; خصوصا حين يغدو التقليد وسيلة دفاع عن الهويةrlm;,rlm; وعدم الخروج علي الجماعةrlm;-rlm; حماية للذات الجمعية ودفاعا عنهاrlm;,rlm; وفي مواجهة الأخطار التي تهددهاrlm;-rlm; نوعا من التوقف عن الحركةrlm;,rlm; المخاطر التي يبدو أنها لا تزال قائمةrlm;,rlm; خصوصا في أعين الذين لا يرون جديدا في التاريخrlm;,rlm; ويؤمنون بالتعاقب الدائري للأحداثrlm;,rlm;

وأن ما حدث من قبلrlm;-rlm; في أثناء الحروب الصليبية ومخاطر المغول والتتارrlm;-rlm; لا يزال يحدث الآنrlm;.rlm; والنتيجة هي استعادة فقه التخلفrlm;,rlm; والميراث الملئ بالخوف من الآخرrlm;,rlm; والنظرة العدائية إليهrlm;,rlm; والانتقال من الآخر الأجنبي إلي المختلف أو الآخر المحليrlm;,rlm; بما يسقط صفات الأول علي الثانيrlm;,rlm; في دائرة العداء لكل اختلافrlm;,rlm; وذلك بنتائجه المقترنة بعملية الاستئصال لكل ما هو مغايرrlm;.rlm;

والاستشهاد ببيتي كولردج دال في هذا السياق الذي نعيش فيه في الماضي أكثر مما نعيش في الحاضرrlm;,rlm; ونقيس كل شيء في حاضر حياتنا أو وعود مستقبلنا علي ما يمكن أن يكون شبيها به أو دعما له في الماضيrlm;,rlm; الأمر الذي يؤدي إلي أن لا نعرف إمكانات حاضرناrlm;,rlm; ولا احتمالات مستقبلناrlm;,rlm; ويدفعنا إلي أن نتهوس بلحظات الماضي التي تشبه لحظات حاضرنا المنهار والمنكسر والمهدد بالأخطارrlm;,rlm;

فلا نفارق شروط الضرورة فيه إلا إلي نظائرها في الماضي الذي لا تنتقي منه الذاكرة الجمعية إلا ما هو شبيه بحاضرنا في تخلفه وأزماته الطاحنةrlm;.rlm;ولن تجد دليلا علي انتقائية الذاكرة الثقافية الجماعية من معارض الكتب العربية التي تتباين مطبوعاتها من قطر إلي قطرrlm;,rlm; ويتعمد الناشرون اختيار الكتب المناسبة لكل بلدrlm;,rlm; عارفين أين تذيع كتب النقلrlm;,rlm; وأين تبيع كتب العقلrlm;,rlm; مؤكدين باختيارهم حرصهم علي الربح بمعرفة حركة الذاكرة الثقافية في هذا القطر أو ذاكrlm;,rlm; وما تتحول به هذه الحركة إلي مرايا لرغبة التقدم أو واقع التخلفrlm;.rlm;