جهاد الخازن


ما كنتُ أتصوّر يوماً وأنا أحدث برزان التكريتي في جنيف انه سينتهي أمام حبل المشنقة في العراق، فقد عرفته بعد سنوات الاستخبارات والعنف، وبعدما خالط العالم الخارجي بما يكفي ليضمّن حديثه أحياناً بعض الكلمات الانكليزية. وعندما ذكَّرته مرة بما أسمع عن ماضيه ردّ ان ذلك قبل عشر سنوات أو عشرين سنة والثورة تدافع عن وجودها، ثم ان الناس تتغير، وهو استشهد بكلمات للدكتور بطرس بطرس غالي عندما قرر ترشيح نفسه أميناً عاماً للأمم المتحدة لولاية ثانية وقوله ان الذي لا يتغير حمار.

ربما كان برزان التكريتي تغير فعلاً، وكان في حديثه دائماً ما يوحي بذلك، الا ان النظام لم يتغير، ما سأعود اليه في نهاية هذه السطور، بعد ان أستذكر بعض ما سمعت من الرجل الذي لم يلق محاكمة عادلة.

أجريتُ اتصالات هاتفية كثيرة مع برزان ومقابلات، ونشرت من دون أن أنسب الكلام اليه، ونقلت عنه باسمه. ولا أنسى كلاماً جريئاً له في مقابلة معه في مقر القنصلية العراقية في جنيف نشرته laquo;الحياةraquo; في 31/9/1995.

كان الوضع العراقي مثار جدل كبير بعد فرار حسين كامل وشقيقه صدام كامل، صهري صدام حسين، مع زوجتيهما الى الأردن، وإعلان الأول ترؤسه معارضة لقلب النظام في بغداد. لم أفاجأ ان يهاجم برزان حسين كامل، فقد كان واضحاً انه يحتقره ويحمّله مسؤولية أخطاء كثيرة ارتكبها النظام بعد نجاحه في عزل الرئيس عن مصادر معلومات كثيرة وممارسة الفساد على نطاق واسع. وبدا لي ان برزان التكريتي لا يزال يعتبر حسين كامل سائق سيارة الرئيس كما كان في 1975، ولا يستحق أي منصب أعلى من ذلك.

غير ان ما فاجأني كان هجوم برزان على عدي صدام حسين، فقد قال انه غير مؤهل للحكم، وهو لم يقدم شيئاً للحزب أو الثورة، فكل ميزته هي انه ابن الرئيس. وربما كان الاولاد هم سبب عودة الرجل الى العراق على رغم خلافه مع النظام، فقد توفيت زوجته بالسرطان، ووجد ان أولاده وبناته يتحولون تدريجياً الى غربيين، فقرر ان يعود الى العراق لينجو بهم، غير انني أعرف ان بعضهم عاد الى جنيف الآن.

أذكر من تلك المقابلة وغيرها ان برزان التكريتي كان دائماً يتحدث عن قربه من الاكراد، وهو كشف لي عن اتفاق لهم مع الحكومة العراقية سنة 1992، الا ان الأميركيين منعوهم من تنفيذ الاتفاق، وهدّدوهم بوقف مساعدتهم اذا فعلوا، على حد قوله.

وأثبتت الاحداث اللاحقة ان برزان التكريتي كان صادقاً في نفي أكاذيب أطلقها حسين كامل في عمان، عن وجود مفقودين كويتيين كأسرى في العراق، وعن مخازن أسلحة الدمار الشامل، وعن خطة عراقية جديدة لغزو الكويت والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، بل انه قال انه يعذر الكويتيين ان صدّقوا هذا الكلام بعد ما أصابهم، وبعد ان لسعتهم نار الاحتلال، على حد قوله.

سألت برزان هل ينضم الى المعارضة في الخارج، فقال انه يعارض على طريقته الخاصة ولن ينضم الى أي معارضة. وهو بدا كمن يعرف صدام حسين، فقد كنتُ قبل أسبوع أجريت مقابلة للرئيس حسني مبارك الذي عرض استضافة صدام حسين لاجئاً سياسياً في القاهرة بحمايته. وقال برزان ان صدام حسين ليس من النوع الذي يطلب لجوءاً سياسياً أو يقبل العيش خارج بلده. وهو لو قبل العرض المصري، أو عرض الشيخ زايد، رحمه الله، بعد ذلك استضافته لاجئاً، لكان بقي حياً اليوم، ولكان جنب العراقيين ما أصابهم من ويلات.

برزان نفى بشدة ان يكون يدير مئات ملايين، أو عشرات بلايين الدولارات لمصلحة النظام العراقي. وقال ان من المستحيل التعامل بمبالغ كبيرة من دون معرفة السلطات الاميركية، وهذا صحيح، لأن المبالغ المزعومة لم تكتشف بعد عودته الى العراق، وإنما كانت التهمة جزءاً من الحرب النفسية على نظام صدام.

كان برزان يتحدث في شكل بعيد عن صورته الشائعة، فقد كان مهادناً في حديثه عن الشيعة العراقيين، ودوداً في حديثه عن الاكراد. وعندما تحدث عن علاقات العراق العربية كان ديبلوماسياً أكثر من رئيس استخبارات سابق، فهو طلب عودة التعاون السياسي والتنسيق مع المملكة العربية السعودية ومصر: بل انني حدثته مرة قرب نهاية 1995 عن مؤتمر للمعارضة العراقية يستضيفه الملك حسين، فأصر على عدم انتقاد العاهل الأردني، وأكد ان العلاقات بين البلدين والشعبين ستمنع حدوث قطيعة.

اذا كان برزان التكريتي تغيّر فالنظـــام حتماً لم يتغير، وقد أصر برزان دائماً على عدم تسجيل أي حديث، وعدم أخذ صـــور، ولكنـــه لم ينفِ يوماً أي كلام نسبته اليه، سواء المقابلات الطويلـــة، أو المعلومات.

كان يكفي لأتذكر النظام ان أرى معنا في مكتبه موظفاً يسجل بالقلم على أوراق كل ما نقول، سواء أسئلة وأجوبة للنشر، أو حديثاً عاماً، ولم أسأل من هو الشخص الثالث في المكتب، فقد جاءني الجواب صدفة عندما سألت برزان التكريتي مرة هل يعود الى بغداد. ورد انه موظف في وزارة الخارجية، وسيعود اذا استدعته الوزارة لأسباب العمل. وخرجت في اتجاه المصعد، ورافقني برزان، وفوجئت به يعانقني عند باب المصعد، فلم يكن بيننا عناق، وإنما مصافحة باليد، ووجدته يهمس في اذني بعد ان ابتعد عن الموظف وقلمه وأوراقه انه لن يعود قبل الحصول على laquo;ضماناتraquo;.

لا أعتقد بأن برزان التكريتي حصل على ما يريد من أخيه غير الشقيق، غير انه عاد مع أولاده بعد غياب أمهم، وهو لو بقي في جنيف لكان نجا بنفسه، ولكان وفّر لأسرته حياة أفضل.


العنوان الأصلي للمقال : النظام لم يتغير .