محمد علي الأتاسي

عاد ستار الصمت الحديدي ليلقي بظلاله من جديد على طبيعة المخاضات التي يعيشها المجتمع السوري. كانت فسحة quot;ربيع دمشقquot; في بداية الألفية الثالثة مناسبة غنية لإعادة اكتشاف بعضاً مما يعتمر في أحشاء هذا المجتمع المحكوم بحالة الطوارئ ونظام الحزب الواحد منذ العام 1963، ولتلمس آفاق الحلول السلمية القادرة على إخراج هذا البلد من أتون الديكتاتورية والفساد.

عدا أن ضعف المعارضة وتعنت الرؤوس الحامية في النظام حفاظاً على مصالحها، إضافة إلى أحداث الحادي عشر من أيلول وما تلاها من غزو العراق و محاولة فرض الديموقراطية بقوة المجنزرات الأميركية، مروراً بالقرار الأممي 1559 واغتيال الرئيس الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان وتشكيل لجنة التحقيق الدولية، ووصولاً إلى حرب تموز في لبنان، دفعت بالتدريج النظام السوري إلى التمترس الداخلي من حول قلعته الأمنية وإلى إعادة تفعيل جلّ الممارسات القمعية التي أتقنها بحق شعبه.

كانت فسحة quot;ربيع دمشقquot; فرصة ثمينة لاح فيها الأمل بإمكانية طي صفحة الماضي من خلال تفعيل عمل الذاكرة والسماح للمكبوت بالخروج إلى العلن واستعادة ضحايا القمع والسجون والتعذيب لحقهم في الكلام العلني وفي التعبير عن ما لحق بهم من ضيم وظلم.

لم يكن المطلوب يومها، في ظل توازنات القوى القائمة، أي نوع من أنواع الثأر والانتقام، ولا حتى المحاسبة. كان جلّ ما يرجوه الحراك المجتمعي هو أن تدرك السلطة أن الأساليب القمعية السابقة في تكميم الأفواه وتعميم الخوف وتكديس الناس في السجون لم تعد تجدي نفعاً، وأن المطلوب لطي صفحة الماضي هو الإقلاع عن هذه الممارسات ورد المظالم لأهلها وتبيض السجون ورفع حالة الطوارئ والسماح لمكونات المجتمع السوري في التعبير عن نفسها بحرية وفي المشاركة الفاعلة بصنع حاضرها ومستقبلها. وهذا بالضبط ما عبر عنه بيان الـ 99 التأسيسي غداة وصول الرئيس بشار الأسد للسلطة.

عدا أن تلاحق التهديدات الإقليمية وانسداد آفاق التغيير الداخلية، دفعت بالسلطة إلى الإنزلاق أكثر فأكثر نحو إعادة تفعيل مجمل المنظومة الأمنية السابقة. لا بل، وإلى إعادة هيكلتها، بحيث تستجيب للمستجدات على صعيد ثورة المعلومات وتطور وسائل الاتصال، في مواجهة الأساليب المبتكرة التي حاول المنشقون السوريون اللجوء إليها للتعبير عن أنفسهم وإيصال برامجهم.

فلم تعد السلطة تكتفي بسياسة الاستدعاء والمنع من السفر والاعتقال بحق الناشطين، ولا بمنع الأحزاب والمنتديات والتجمعات العامة والصحف والمطبوعات المعارضة، بل تم حجب معظم المواقع المعارضة على شبكة الانترنت وتمت ملاحقة المدونين وإغلاق مدوناتهم، ومنع الناشطين السياسيين من الاجتماع وتبادل الآراء حتى وراء جدران الغرف الضيقة. وأجبر مراسلو الصحف وقنوات التلفزة العربية والأجنبية، وجلّهم من السوريين، على ترداد الخطاب الرسمي السوري وإن بمفردات مغايرة.

وفي المحصلة فإن جدار الصمت الحديدي عاد من جديد ليلقي بظلاله على الواقع السوري، وراحت الأصوات المعارضة والمنشقة الآتية من الداخل تخفت تدريجياً على إيقاع التوقيفات والاستدعاءات المتتالية، وباتت صورة سوريا الظاهرة تشبه إلى حد بعيد ما يريده النظام لها. لكن الصورة شيء والواقع العياني شيء آخر، والمخاضات السورية حاضرة ومستمرة، وإن منعها القرار السلطوي من الظهور إلى العلن.

صحيح أن لا أحد في سوريا يريد لبلده مصيراً مشابهاً للمصير العراقي، وقلة هي التي تعول على التدخل الخارجي الفظ لدفع قضية الديموقراطية في سوريا إلى الأمام. لكن من الإجحاف قراءة الواقع السوري على ضوء النموذج العراقي ومآلاته، ليس فقط لاختلاف التركيب السوسيولوجي وعلاقة المدن بالأرياف والتوازنات الإثنية والطائفية بين البلدين، ولكن لكون المجتمع السوري لم يعانٍ من ثلاثة حروب مدمرة ومن فترات حصار مضنية ومن حلقات عنف مدمرة ومن تدمير كامل للطبقة الوسطى ومن إفراغ منهجي للبلد من نخبه الثقافية والاقتصادية. ناهيك أن لا وجود، من بين كل السيناريوات الكارثية الملوح بها من الخارج، أي سيناريو لاحتلال البلد عسكرياً وتدمير بناه القائمة وحل جيشه وتفكيك مؤسسات دولته.

لقد استطاع المجتمع السوري، برغم فترة الثمانينات الدامية وجبروت السلطة المتمادي، أن يطور بنى اجتماعية موازية سمحت له أن يحافظ على الحد الأدنى من توازناته الاجتماعية ومن وجود فاعل لطبقة وسطى ممتدة سوسيولوجياً وأن يطور من طاقاته الثقافية والاقتصادية الكامنة، بمعزل عن التدخلات السلطوية حيناً، وبالرغم منها في أحيان أخرى. وإذا كانت السلطة تجهد لكي تمنع كل هذه التبدلات المجتمعية من أن تأخذ تعبيراتها السياسية المطابقة، فإنها في الحقيقة، لا تفعل شيئاً آخر، سوى تأجيل استحقاق سياسي لتغيير مجتمعي متحقق فعلاً.

وإذا كان صحيحاً، في المقلب الآخر، أن المعارضة السورية بقيت عاجزة هي الأخرى، نتيجة ظروفها الذاتية والموضوعية، عن تقديم خطاب (وفعل) سياسي يكون قادراً على استيعاب هذا الحراك المجتمعي ودفعه إلى آفاق أوسع فإن ما يميزها، مع ذلك، هو في بقاء جسمها الأساسي داخل حدود البلد، كمعارضة داخلية محكومة بسقف المعادلة الوطنية بعيداً عن الأجندات الخارجية والتجاذبات الإقليمية.

من هنا لا يستطيع المرء، إلا أن يأسف لكون جماعة quot;الاخوان المسلمينquot; فضلت في النهاية خيار quot;جبهة الخلاص الوطنيquot; الخارجي، على خيار quot;إعلان دمشقquot; الداخلي بامتياز. فرغم كل عواهن ومثالب تحالف quot;إعلان دمشقquot;، إلا أنه شكل فرصة تاريخية لجماعة quot;الاخوان المسلمينquot; لتعود من الباب العريض إلى معادلة الداخل، بعد أن أخرجتها السلطة منها بالقوة خلال صراع الثمانينات الدامي. لكن تسرع قيادة الأخوان وضيق نفسها، قاداها إلى التفريط بهذه الفرصة الثمينة.

واليوم، إذ تلجأ السلطة السورية إلى إعادة تفعيل منظومتها الأمنية وإلى تكميم الأفواه وتعميم الخوف من جديد، مستعيدة، كل ما أكل الدهر عليه وشرب، من ممارسات الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، فإن ما يفوتها هو أن الواقع يتغير والزمن لا يعود إلى الوراء والمجتمع السوري قد شبّ على القيد. صحيح أنه قد يكون من الممكن إخراسه من جديد لبرهة، لكنه من المستحيل إبقاؤه صامتاً إلى الأبد.