سمير عطا الله


صار الحديث عن quot;النزاهةquot; في الجمهورية نوعاً من المنّة، كأنما هي وحي لا يبلغ، وموهبة لا تدرك. او كأنما نحن شعب فاسد فاسق حل علينا، في ما حل من مكائد ومصائب وتعتير، رجال اختارتهم، العزة الالهية ليكونوا نزهاء وأولياء. وحدهم ولا سواهم. وكنت أشعر بالمقت حيال هذا المصطلح الاستعلائي والتعبير الفارغ. فالغارقون في المال وان مال سواهم ndash; والممعنون في السلطة أو في شبقها، لا يحق لهم اطلاقاً ادعاء هذه الفضيلة الكبرى التي كانت في ما مضى فرضاً من فروض الولاية، وحكماً من أحكام من يطلبها.

فأول شروط النزاهة، الوَرَع، لا الجشع. وأهم احكامها الترفع لا الاستعلاء. وهي مرتبة تعطى لا ادعاء يدّعى.
والورع قسم يحفظ لا quot;مغيطةquot;. والقسم يمين تؤدى امام الله والقانون والشعب. وهو لا quot;يمغطquot; ولا يبدل بنقيضه، كما في قصيدة جاك بريفير الملعونة: ايتها الحبل بلادنس، دعيني أتدنس من غير ان أحبل.

والنزاهة فعل ايمان بالله والوطن والانسان. وليست لها حواش وتفسيرات واجتهادات وأضاليل. لذلك يصعب على كثيرين الانتماء اليها من دون كسر القسم ونكص الوعود. وهي تبقى صفة لمن يحافظ عليها كفرض. ولا تقبل الاستثناءات ولا الزلل. انها شيء مطلق. لا يكون المرء شبه نزيه ولا نصف نزيه. أما انه رجل ورع يقارب الاولياء الصالحين واما مثل سواه، مع فارق بسيط فقط في النسبة.

ذهبت في لندن ازور الاستاذ خليل رامز سركيس، صاحب تحفتي النثر اللبناني، quot;من لا شيءquot; وquot;مصيرquot;. وكانت تربط عائلته بالرئيس الراحل ايوب ثابت رابطة عميقة. فسألته اين الاسطورة في نزاهة أيوب ثابت واين الحقيقة؟ فروى: quot;ذات مساء كان أيوب ثابت عائداً الى منزله، ماشياً كالمعتاد. فهاجمه في الظلام ثلاثة أشقياء يطلبون ما يحمل. فقال لهم quot;مهلاً. اولاً، اهدأوا قليلاquot;. ثم افرغ جيوبه مما يحمل من مال. واعطاهم خاتمه، ثم زرّي قميصه الذهبيين. ثم توقف قائلاً لهم: quot;انني اعتذر عن عدم اعطائكم ساعتي. فتعالوا غدا وخذوا ثمنها. فهذه الساعة تعني لي الكثير. فقد رهنتها ثلاث مرات اثناء اقامتي في نيويورك، من اجل أن أبرق مطالباً باستقلال لبنان. انها بالنسبة اليَّ ساعة الاستقلالquot;.

وانحنى الاشقياء الثلاثة على يد ايوب ثابت، وهم لم يعرفوا بعد من هو، وقبّلوها، واعادوا اليه ما اخذوا منه، ورافقوه حتى منزله. وقبلوا يده مرة اخرى.

روى خليل رامز سركيس: quot;كان جان عزيز من أقرب الاصدقاء. وكان يمرَّ عليَّ مرة في الاسبوع لكي نذهب معاً للسلام على خاله البطريرك المعوشي. فسألته مرة: لماذا لا تذهب بمفردك لرؤية خالك بطريرك لبنان؟ فقال: quot;يا خليل لست قادراً على شراء سيارةquot;! وبعيدها ارسلت أنا شخصياً الى شقيقه في المكسيك أقول له: النائب جان عزيز لا يملك ثمن سيارة تنقله لزيارة خاله بطريرك انطاكية وسائر المشرقquot;.

تلك هي النزاهة، ليست ادعاء، ولا فجوراً، ولا تهديداً للناس كل يوم بأنهم يكذبون ويفترون. ولا تحدياً لهم بأن يثبتوا أن مدعيها مدّعون. النزاهة لا تحتاج الى اثبات. ليست سجلاً عدلياً من مخفر فرن الشباك. وليست فاتورة كهرباء تثبت مكان السكن. النزاهة مسيرة وعمر وحقائق دائمة غير متقطعة وغير مرفقة بأذن خاص في الارتكاب، صغيراً أو كبيراً.

النزاهة ان ايوب ثابت كان يذهب الى السرايا في الترام. وان الياس سركيس اعاد صندوق quot;المصاريف السريةquot; كما تسلمه غير ناقص ليرة واحدة. والنزاهة ألا يملك نائب ثمن سيارة ليذهب بها لزيارة خاله الذي يصدف انه بطريرك الموارنة، ايام كانت قيمهم الحرية والميثاق والوحدة. اما ادعاء النزاهة من بين المواكب وما يرافقها ومن يرافقون، فسوف يبقى مجرد صياح في الهواء من جملة الصراخ والزعيق امام المرآة.

نحن بلد صغير. نعرف بعضنا بعضاً من خلال النوافذ. نعرف ماذا يطبخ جيراننا، من رائحة الشواء على شرفتهم. فيروز الصبية، لم يكن في منزل أهلها مذياع وكانت تصغي الى الاغاني من بيت جيرانها. لا نستطيع ان نخدع بعضنا بعضاً ولا ان نخدع أحداً.

يقول لي كثيرون في نقد شديد وموضوعي لماذا لا تكتب الا عن الغائبين؟ مرة أيوب ثابت، ومرة ريمون اده، ومرة فؤاد شهاب؟ ويكون جوابي دوماً محزناً: اكتب عن الغائبين لأن لا وجود للاحياء في هذه المراتب العظيمة من الخلق الشخصي والاجتماعي والوطني. ولكي اذكَّر اجيال لبنان. بان بلدهم ليس ما يرون وما يعيشون، ولكي أقول لهم إنني في أوائل شبابي كنت أرى رجلاً يركب الترام بلباس السموكنغ الرسمي. وكنت اظنه مختلا. وعندما كبرت عرفت انه الامير خالد شهاب رئيس الوزراء، وانه لم يعد لديه من الثياب سوى الطقم الرسمي، ومن المال سوى خمسة قروش تنقله من محطة العويني قرب الليسيه الى ساحة البرج.

النزاهة ليست كذبة مكررة، ولا مهرجاناً، ولا تزعيقاً على الناس، شيء مطلق هي وهبة عظيمة لا يمنحها الله الا للاقوياء والمترفعين. ولا يراها المتعالون وذوو الغرور. لأن النزاهة، أو الورع، هي الجسر الانساني الذي يربط ولي الأمر باحكام السماء. فيتعالى عما في الارض لأن ما فيها لها، ولترابها. ويتشبّه بالصالحين والصادقين وذوي النيات الحسنة. ولا يبتغي من ربه ولا من أرضه سوى طيب الأثر، واليه وحده حسن المآب.

قبل ان نتمادى في دوس معاني اللغة واحكام المعرفة، يجب ان نتفق على تعريف التعابير، وخصوصاً في ما يتعلق بتاريخنا وحاضرنا ومستقبل شبابنا. فالقوة أو الاستقواء، لا تحوّل الادعاء نزاهة. والادعاء على الغير لا يحول ادعاءات الذات ورعاً شخصياً أو وطنياً أو قومياً. وليس هناك من يعتب في أي حال، فلماذا التعب في الادعاء؟ لقد تدرب هذا الشعب على تلقي ما يُرمى اليه. ومن لم يعجبه حمل حقيبته وسافر. وسوف يكتب من شتاء الارجنتين أو شتاء البرازيل، معلقة ثانية في خطى الشاعر القروي، مطلعها quot;يا ثلج قد هيجت اشجاني، ذكرتني اهلي بلبنانquot; فيقال له: صه. احفظ لسانك. الهياج يقال فقط للارامل والثكالى، اذا صلى فيهن بطريرك لبنان. ثم يسألون لماذا يفرغ البلد؟