13 يناير 2007
د. حسن حنفي
ينقسم تاريخ مصر المعاصر على مدى أكثر من نصف قرن منذ ثورة يوليو 1952 حتى العصر الحالي إلى قسمين. الأول ادخار ثروات مصر، والثاني نهب أموال مصر. قام بالأول جيل الخمسينيات والستينيات الذي مازال يناضل ويحمي الوطن من المخاطر. والثاني، شهده جيل السبعينيات والثمانينيات. أما جيل التسعينيات، جيل الشباب الآن، فهو جيل حائر بين الجيلين السابقين، جيل شد الحزام على البطون من أجل رخاء الأجيال القادمة، وجيل فك الحزام وضياع الثروات. جيل يدَّخر، وجيل يبذر. جيل يقتصد، وجيل يستهلك.
بدأ جيل الخمسينيات والستينيات بقيادة ثورية وطنية، اشتراكية قومية، معادية للاستعمار والصهيونية. فقد اكتوى بالاحتلال البريطاني لمصر وبالهزيمة في فلسطين في 1948. عانى من الاستعمار والصهيونية من الخارج، ومن القصْر والفساد من الداخل. أمَّم قناة السويس في 1956 فرضاً للسيادة الوطنية على أصول مصر ضد النهب الاستعماري لها. ومصَّر الشركات الأجنبية في 1957. وقام بأكبر عملية تصنيع منذ محمد علي، الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب، وصناعة الأدوية وquot;الكاوتشوكquot;، وأقام المؤسسة العربية للتصنيع الحربي، وصناعة الألمنيوم، وصناعة السيارات، وصناعة الكيماويات...الخ. وأقام أحياء بأكملها للصناعة في شبرا الخيمة والأميرية وحلوان وأسوان، مع مدن كاملة للعمال في امبابة. وبنى السد العالي الذي حمى مصر من الجوع والعطش. وشيَّد القطاع العام لتوفير السلع للطبقات الفقيرة. وأصلح الأراضي لزيادة الرقع الزراعية وتوزيع الأرض على الفلاحين. وأنشأ مديرية التحرير. وحدد الملكية ثلاث مرات متتالية. وقرر مجانية التعليم من المدرسة حتى الجامعة، استئنافاً لجهود الوفد، وإقرار مجانية التعليم حتى الثانوية العامة. فالتعليم كالماء والهواء. وبنى الجيش. وخصم جزءاً من راتبه الضئيل للمجهود الحربي. وهو سعيد لتحويل الجيش من الاستعراضات إلى جيش وطني للقتال دفاعاً عن استقلال مصر الوطني واستعداداً للقتال في التل الكبير وعلى ضفاف القناة وعوْداً إلى فلسطين. وأقام الإسكان الشعبي ولجان تقدير الإيجارات حماية للسكان من استغلال المُلاك. وأقام خططاً خمسية لتنمية مصر اعتماداً على المدَّخرات الوطنية أكثر من الاعتماد على المعونات الأجنبية المشروطة وغير المشروطة. فلم تتجاوز ديون مصر مئات الملايين من الدولارات والتي بلغت فيما بعد المئات من المليارات.
وهو نفس الجيل الذي ساعد حركات التحرر الوطني العربي لاستقلال الشعوب العربية، في الجزائر، ومدها بالسلاح لمقاومة الاستعمار الفرنسي، واليمن للتحرر من الاحتلال البريطاني. تحمَّل مرارة الهزيمة في 1948، والعدوان الثلاثي في 1956. وهو الذي قام بحرب الاستنزاف 1968-1969، وبحرب أكتوبر 1973، quot;خطة بدرquot; لعبور القناة. وتبنى القومية العربية وحوَّلها إلى حركة تحرر عربي شاملة لتحقيق الحرية والاشتراكية والوحدة. وامتدت ثورته إلى العراق في 1958، وإلى اليمن في 1964، وإلى ليبيا في 1969. وأقام محافظة التكامل في وادي حلفا بين مصر والسودان. وحقق أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث، quot;الجمهورية العربية المتحدةquot; 1958-1961. وكان وراء استقلال المغرب العربي كله منذ إنشاء مكتب القاهرة في 1950. وفضل استقلال السودان باختيار حُر للشعب السوداني وحقه في تقرير المصير في 1954. وساعد على استقلال دول الخليج. وحمى لبنان من التدخل الأميركي في 1958. كما حمى الأردن من التدخل البريطاني في نفس العام.
وهو الجيل الذي جعل القومية العربية بمضمونها الاشتراكي التقدمي أيديولوجية ثورية ضمن أيديولوجيات العالم الثالث للتحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وأقام أول تجمع سياسي أفريقي آسيوي في مواجهة الاستعمار الفرنسي والهيمنة الأميركية في باندونج في 1955. وهو تجمع برز زعماؤه: عبدالناصر، تيتو، نهرو، شوين لاي، نيكروما، سيكوتوري، جومو كنياتا، سوكارنو، تنكو عبدالرحمن، الذين يمثلون تحولاً جذرياً في مسار العالم، من الاستعمار إلى التحرر، ومن التبعية إلى الاستقلال. وأصبح العالم الثالث يمثل نقطة توازن بين الشرق والغرب، تخفيفاً للتوتر العالمي بين quot;حلف وارسوquot; وquot;حلف شمال الأطلسيquot;. وقاوم الأحلاف الغربية منذ quot;حلف بغدادquot; في 1954 حتى quot;الحلف الإسلاميquot; في 1965.
أما جيل السبعينيات والثمانينيات فعايش سياسات أدت إلى بيع أصول مصر، التي كوَّنها شعب مصر ، وضحى فيها بآلاف العمال والفلاحين في حفر قناة السويس، وتشييد المصانع. باع القطاع العام بأبخس الأثمان للرأسمالية الحديثة وللشركات الأجنبية أملاً في جذب الاستثمارات. وخُصخصت شركات القطاع العام بدعوى الخسارة. وتوقف بعضها من أجل إيقاف الإنتاج واتساع المجال للاستيراد بأسعار لا يستطيع الفقراء دفعها. وخُصخص التعليم من الحضانة إلى الجامعة. هذا الجيل أقدم على سياسات أضرت بالتعليم الوطني لصالح التعليم الديني أو التعليم الأجنبي. سياسات جعلت الإسكان مجالاً للعرض والطلب بأسعار السوق بما في ذلك الإسكان التعاوني، وجعلت النشاط الاقتصادي في أيدي رجال الأعمال. ورفعت الدولة يدها لصالح الاحتكار والتلاعب بأسعار الحديد والصلب والإسمنت، وجعل الغني أكثر غنى، والفقير أكثر فقراً.سياسات جعلت كثيرين يتهربون مما تبقى من رقابة الدولة على وسائل النقل البحري وتصاريح البناء. هذا الجيل شهد خصخصة البنوك الوطنية، وتهريب رؤوس الأموال أكثر مما أحضرت رؤوس الأموال الأجنبية. هذا الجيل استدان، فجعل ديون مصر أربعين مرة ما كان الأمر عليه في الجيل السابق. واعتمد على المعونات الخارجية أكثر مما اعتمد على المدخرات الوطنية. وحاول إلغاء الرقابة الإدارية. وجعل المجالس النيابية وسيلة لإثراء أعضائه بعقد الصفقات أو القروض حتى يصبح بعد أن يغادرها الأعضاء من رجال الأعمال.
جيل السبعينيات والثمانينيات شهد ابتعاد مصر عن محيطها العربي، وتم تأييد بقاء قوات الغزو بالعراق خوفاً من النزعات الطائفية كما تدعي الولايات المتحدة الأميركية. ويسيل الدم في فلسطين بالعدوان المستمر عليها منذ الانتفاضة الأولى في 1987، ومازال يسيل، ويُكتفى بتدريب الشرطة الفلسطينية، وقد خاضت مصر خمس حروب من أجل فلسطين. وتُرك لبنان فريسة للعدوان الإسرائيلي على المدنيين في الحرب العربية- الإسرائيلية السادسة.
وعجز الجيش الذي لا يقهر عن مواجهة المقاومة. هرمت مصر قبل الأوان، وانعكفت على ذاتها كما حدث لفرنسا بعد الثورة الفرنسية وهزيمة نابليون في quot;واترلوquot;.
وأضاع هذا الجيل فرصة مقاومة الأحلاف الأجنبية لصالح العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والصلح مع إسرائيل. وجعل الوطن العربي مستباحاً بلا حماية. وأصبحت للاستعمار والصهيونية اليد الطولى في تقرير حاضر الوطن العربي ومستقبله.
جيل ضحى، وجيل عاش. جيل افتقر، وآخر اغتنى. فأين حق الجيل الماضي الذي ادخر من ثروة الجيل الحالي الذي بدد؟ أين حق من اقتصد قوت يومه ليبني مصر في ثروات من نهب مصر؟ قضية قانونية وسياسية ووطنية يعرضها جيل الخمسينيات والستينيات الذي ينظر إلى تبديد مدخراته وبيع أصوله. أين حق دم الشهداء من أجل مصر وفلسطين واليمن في ثروات من أصبحوا جزءاً من الرأسمالية العالمية؟ أين حق فقراء جيل الخمسينيات والستينيات في ثروات جيل السبعينيات والثمانينيات؟ متى يخرج الجيل الثالث، جيل مظاهرات الطلاب في ميدان التحرير في 1971، وجيل أكتوبر في 1973، والهبة الشعبية في يناير 1977، وانتفاضة الأمن المركزي في الثمانينيات، والمظاهرات ضد الاحتلال الأميركي للعراق في مارس 2003؟ متى يتوقف هذا الجيل الثالث عن حيرته ودهشته لما حدث في مصر المعاصرة؟ متى ينضم إلى جيل الآباء ضد جيل الأحفاد، حتى تعود مصر إلى مسارها الطبيعي، مصر الوطن، ومصر العروبة، ومصر الإسلام، ومصر العالم الثالث، ميزان الثقل في العالم بين الشرق والغرب؟
التعليقات