محمد السمّاك


هل تعود المنطقة الى عهد الصراع الفارسي ـ التركي (الصفوي ـ العثماني)؟
في تلك الأيام الغابرة كانت الشعوب العربية تدفع ثمن الصراع. فمع تقدم الأتراك كان الشيعة العرب الضحية. ثم مع انحسارهم وتقدم الفرس، كان السنّة العرب هم الضحية. وحتى في حالات التفاهم الفارسي ـ التركي ـ وهي حالات قليلة ـ كان العرب سنّة وشيعة الضحية.

المشهد الحالي يشير الى بداية الدخول في مرحلة جديدة من هذا الصراع. فإيران تعزز دورها وحضورها اقليمياً معتمدة على امور ثلاثة:
اولاً: اعلان نفسها حامية للاسلام وللحقوق الاسلامية بدءاً من فلسطين وخاصة من القدس.
ثانياً: اعتمادها على تعاون الشيعة العرب على قاعدة ولاية الفقيه. والفقيه الوالي هو الإمام الخامنئي.
ثالثاً: تطوير وتحديث قوتها العسكرية وتنمية قدراتها النووية.

وثمة أمر رابع لا يقل أهمية، يتمثل في حالة التشرذم والضعف التي يمرّ بها العالم العربي.
اما تركيا، فانها في توجهها نحو أوروبة منذ العام 1999 بدت وكأنها تدير ظهرها الى الشرق الأوسط. غير ان انفجار العراق المدوي واحتمالات تفتته مذهبياً وعنصرياً، فرض عليها اعادة النظر في سلم اولوياتها الستراتيجية. ذلك ان قيام كيان سياسي كردي في شمال العراق يشكل في حد ذاته عاملاً مشجعاً لحركة الانفصال التي يقوم بها الأكراد في جنوب شرق تركيا. كما ان العراقيين التركمان (اي المتحدرين من اصول تركية)، يتطلعون الى تركيا لرفع الغبن الذي قد يتعرضون له بسبب كونهم أقلية وسط الأكثرية الكردية في شمال العراق.
وسواء كانت هيمنة إيران على العراق الجديد، مباشرة او غير مباشرة، فإن من شأنها ان تقلب موازين القوى بين الدولتين الكبريين تركيا وإيران. وتقلق احتمالات هذه الهيمنة الإيرانية الدول العربية ايضاً ولا سيما دول مجلس التعاون الخليجي والدول الأخرى المتاخمة للعراق. وهي الاردن وسورية. وفي الأساس هناك أزمات غير صامتة بين إيران ومجلس التعاون. وهي:
1 ـ احتلال إيران للجزر العربية الثلاث في الخليج العربي منذ عهد الشاه الراحل وهي طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى.
2 ـ المشروع النووي الإيراني وانعكاساته على امن وسلامة منطقة الخليج.

3 ـ القواعد العسكرية الأميركية المتواجدة في بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون (قطر أساساً).
وبمعزل عن البعد العربي في العلاقات التركية ـ الإيرانية، لا بد من التوقف امام الآثار المباشرة وغير المباشرة للمحاولات الأوروبية المتكررة التي تستهدف تأخير وتعطيل عملية انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، على التوجه التركي نحو الشرق الأوسط من جديد.
فبعد القرار الذي اتخذه القادة الأوروبيون في اكتوبر ـ تشرين اول 2005 بإجراء مباحثات حول الانضمام الكامل لتركيا، اتخذوا هذا الشهر ـ ديسمبر 2006 ـ قراراً معاكساً بتجميد مباحثات الانضمام. وبرروا الموقف المعاكس بمخالفة تركيا لشرط من شروط الانضمام وهو فتح مطاراتها وموانئها أمام طائرات وسفن قبرص اليونانية التي أصبحت عضواً كاملاً في الاتحاد، فيما بقي مصير قبرص التركية ـ الشمالية ـ معلقاً.

هذا في الشكل. اما في الجوهر فان الأوروبيين ليسوا تواقين لقبول العضوية التركية. فالاستفتاء على الدستور الموحد سقط في فرنسا وهولندة بسبب ذلك. ثم ان الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم في ألمانيا يعارض هذا الانضمام. وقد مارست النمسا حق الفيتو ضد طلب الانضمام التركي ايضاً. وهو حق قد تمارسه اليونان وقبرص ايضاً.
من هنا تبدو الطريق الأوروبية مغلقة امام تركيا رغم كل الاصلاحات التي قامت بها لتسهيل عملية قبولها. ومن هنا ايضاً حتمية التوجه التركي شرقاً نحو دول آسيا الوسطى والقوقاز.. وجنوباً نحو الشرق الأوسط والخليج العربي.
فسواء كان الموقف الأوروبي السلبي من تركيا مقصوداً لدفع تركيا جنوباً او غير مقصود، فان النتيجة واحدة. وهي ان ذلك يوجب التحسب لاحتمالات المواجهة التركية ـ الإيرانية من جديد.
تثير هذه الاحتمالات قلقاً شديداً يتمثل في التساؤلات التالية:
ـ هل يقوم تحالف عربي ـ تركي في مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة؟
ـ هل يأخذ هذا التحالف الهوية المذهبية (السنية)؟
ـ وماذا عن موقف العرب الشيعة؟ هل يجدون أنفسهم مضطرين للاختيار بين الولاء لأوطانهم العربية والولاء لإيران (ولاية الفقيه)؟
ـ وهل تؤدي كل هذه التحولات الى صناعة الشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه الادارة الأميركية؟
ـ وهل يُستدرج العالم العربي وتركيا وإيران الى هذه الفتنة الكبرى؟
تلعب عدة أمور دوراً أساسياً في صبّ الزيت على نار الفتنة. في مقدمة هذه الأمور المصلحة الأميركية المباشرة التي تقع في اطار ما تسميه الولايات المتحدة quot;الحرب على الارهابquot;. ففي حسابات ادارة الرئيس بوش، فإن الارهاب سنّي. وان العنف شيعي. وانه من المفيد توفير الظروف التي تساعد على توجيه سهام الطرفين نحو الداخل الاسلامي لاستنزاف طاقتيهما معاً ولصرفهما عن استهداف أمن الولايات المتحدة ومصالحها.
من هنا، فان مشروع الفتنة السنّية ـ الشيعية يحقق للولايات المتحدة هدفاً استراتيجياً تعجز ـ وقد عجزت بالفعل ـ عن تحقيقه بوسائلها العسكرية (اجتياح العراق وافغانستان والحرب الاسرائيلية على لبنان)، أو بوسائلها السياسية والاعلامية (حملات تشويه الاسلام وممارسة كل صنوف التمييز الديني والعنصري ضد المسلمين).
ومن هذه الأمور ايضاً تعامل اسرائيل مع المشروع النووي الإيراني والذي تعتبره خطراً على أمنها الستراتيجي. وعندما يصبح القلق من هذا المشروع قلقاً عربياً ايضاً ـ بغياب التفاهم والثقة والتنسيق بين إيران والدول العربية ـ فإنه يخشى ان تأخذ المواجهة طابعاً عربياً ـ إيرانياً.. وبالتالي سنياً ـ شيعياً.

ومن هذه الامور كذلك تعثر جهود المؤسسات العربية والإيرانية للتقريب بين المذاهب (وخاصة بين السنّة والشيعة) وهو تعثّر يتزامن مع المجازر المذهبية التي تقع كل يوم في العراق والتي تحصد المئات من الضحايا. كما انه يتزامن مع نشر معلومات (؟) عن عمليات مبرمجة لاختراق المجتمعات السنّية في بعض الدول العربية ـ كالسودان وسورية مثلاً ـ لتشييعها، من خلال المساعدات المالية.

قد يكون من المفيد هنا التذكير ـ مجرد التذكير ـ بالمشروع الاسرائيلي لاعادة النظر في خريطة المنطقة من باكستان حتى المغرب على أساس أن يكون لكل جماعة عنصرية وطائفية ومذهبية وحتى قبلية كيان سياسي خاص بها. وهو مشروع عملت اسرائيل ـ ولم تزل تعمل ـ على تنفيذه منذ الخمسينات من القرن الماضي بدءاً بلبنان، وقد ظهرت مؤشراته في جنوب السودان وفي شمال العراق وحتى في أواسط الجزائر وجنوب المغرب. ولا يزال هذا المشروع يعتبر الاساس للأمن الستراتيجي الاسرائيلي. ومن الواضح ان الادارة الأميركية الحالية تبنّته أكثر من أي ادارة سابقة، فكانت الحرب على العراق وما أسفرت عنه حتى الآن من اندلاع الفتن المذهبية والعنصرية والطائفية. ثم كانت قضية دارفور في شرق السودان. وكانت سلسلة الفتن المتنقلة من صعيد مصر حتى فلسطين ولبنان.. والآتي أعظم.
وبدلاً من ان يكون هذا المشروع حافزاً اضافياً لمزيد من الوحدة بين الدول العربية ولمزيد من التضامن بين الدول العربية والدول الاسلامية (تركيا وإيران)،او على الأقل، بدلاً من ان يكون عاملاً منبهاً للخطر المحدق بهذه الدول وبوحداتها الوطنية وبعلاقاتها المشتركة، فانه يتسلل عبر عروقها المذهبية والعنصرية ليدمر خلاياها الحية ويحوّلها الى جثث مقطعة الأوصال.

عندما كان الفرس (الصفويون) والأتراك (العثمانيون) يتقاتلون فوق الأرض العربية، لم تكن هناك اسرائيل. أي انه لم يكن هناك عدو مشترك. كان هناك تقاتل من اجل التفوق والتوسع. اما الآن فمع وجود اسرائيل، ومع وجود مشروعها التدميري الخطير، فإن الإيرانيين والأتراك والعرب مدعوون للدفاع عن وجودهم ومستقبلهم.. وما لم يدركوا خطر هذا العدوالمشترك.. فسيجدون أنفسهم جميعاً غارقين في وحول الفتنة الكبرى التي تستدرجهم اسرائيل اليها.