17 يناير 2007
د. برهان غليون
ليس سراً أن المعارضة السورية، مثلها مثل الرأي العام السوري نفسه، وجميع الأطراف العربية والدولية التي لديها حسابات قديمة وحديثة مع نظام الحكم في دمشق، راهنت رهاناً كبيرا على الضغوط الغربية الأميركية الأوروبية، كما راهنت على العزل العربي، في سبيل دفع النظام إلى الانفتاح بشكل أو بآخر على مصالح الأطراف الأخرى، وأخذها بعين الاعتبار. بل إن بعض أطراف المعارضة، تجاوز في توقعاته الحلم بتغيير سلوك النظام نحو التفاؤل بسقوطه الوشيك!
والمفارقة أن تعليق الآمال في التغيير الداخلي على الضغوط الخارجية والعزلة العربية والدولية التي تتعرض لها سوريا، لم يقتصر على بعض التيارات الليبرالية المتهمة بالتقرب من الغرب والارتباط به فحسب، وإنما طال قطاعات من الرأي العام الوطني والديمقراطي المعادي للولايات المتحدة، والرافض لأي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية، والمتضامن بشكل كامل مع المقاومة في فلسطين والعراق... أي عند القطاعات التي تبرر مشروعها السياسي، وفي مقدمته نشر الديمقراطية والإصلاح، بمواجهة المشروع الاستعماري وتوحيد الشعب وتأهيله سياسياً لمواجهة السياسات العدوانية الغربية والتصدي للسيطرة الأجنبية. هكذا لم يمنع التمسك بمبدأ السيادة الوطنية والاستقلال ورفض التدخل الأجنبي والامتناع عن مد يد العون له... من الاعتقاد بأن الضغوط الخارجية قد تحسم أمر النظام، وأنه من الضروري أخذ الاستعدادات اللازمة لتجنيب البلاد مخاطر الفوضى وعدم الاستقرار.
وليس هناك شك في أن تصاعد الأمل في أن تفضي الضغوط الخارجية إلى التغيير، قد ارتبط بظروف استثنائية هي تلك التي أعقبت اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، وإطلاق آلية التحقيق الدولي الذي وجه أصابع الاتهام منذ البداية لمسؤولين سوريين ولبنانيين. لكن تعثر المشروع الأميركي في العراق منذ السنة الأولى للاحتلال، وانقسام الرأي العام الغربي حول الطريقة الأنجع لمواجهة النظام السوري، وخوف إسرائيل من فقدان الاستقرار والسلام على الجبهة الشمالية... كل ذلك قدم للنظام فرصة كبيرة لالتقاط أنفاسه، قبل أن تستدرك طهران الموقف وتهرع، بعد وصول أحمدي نجاد إلى السلطة، إلى تعويم النظام ووضعه على رجليه من جديد.
وتأتي سياسة الحوار الجديدة التي تسعى بعض الأوساط quot;الديمقراطيةquot; داخل الإدارة الأميركية والدبلوماسية الأوروبية، لبلورتها في التعامل مع دمشق وطهران، في إطار البحث عن وسيلة لتعزيز الاستقرار الهش في منطقة المشرق العربي، وفي العراق خاصة، لتمد في فترة التقاط الأنفاس هذه ولتعززها. وهي تثير في المقابل مخاوف عميقة لدى المعارضة والرأي العام السوريين، من أن تؤدي إلى إعادة التفاهم بين النظام والقوى الغربية على حساب آمال التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي المنشود.
في نظري يمكن إرجاع هذا السلوك المفارق، القائم على الرفض الشامل للتدخلات الأجنبية والمراهنة في الوقت نفسه على آثارها في سبيل إحداث التغييرات الداخلية، إلى عاملين رئيسيين، متباينين ومتكاملين معاً. الأول فقدان الرأي العام أي أمل في قدرة النظام على الإصلاح أو استشعار الرغبة فيه. وهو الاستنتاج الذي يقود إليه عجز النظام عن مكافحة الفساد والفوضى المستشريين، ومواصلة سياسات التسيب وما تؤدي إليه من تدهور متواصل في شروط الحياة المادية والمعنوية، وسيطرة ممارسات القمع والعسف والمحسوبية، والزواج المتزايد بين السلطة والمال، وتفاقم التمييز بين الأفراد والفئات الاجتماعية، ومن وراء ذلك، تنامي الاعتقاد باستحالة حصول أي تغيير مهما كان محدوداً من دون ضغوط خارجية. والعامل الثاني هو انعدام الثقة الطبيعي، والمشروع، في النوايا الأميركية، أي في الدولة التي تقوم بتلك الضغوط، ورفض القبول بربط برنامج الديمقراطية والإصلاح، والذي يجب أن ينبع من مطالب وطنية عميقة، بأجندة السيطرة الخارجية.
ليس هناك أي سبب كي تخاف المعارضة الديمقراطية من التحولات الجديدة. فمن جهة أولى، لم تكن الوعود الأميركية بالتغيير خططاً حقيقية تنتظر التنفيذ بقدر ما كانت شعارات جوفاء هدفها الضغط على النظام لدفعه إلى تغيير سلوكه بما يجعله أكثر توافقاً مع أجندة السيطرة الأميركية على الشرق الأوسط، أي تحويله إلى مجرد أداة في يد الاستراتيجية الغربية. وتقرير quot;بيكر- هاملتونquot; الذي رحب به النظام السوري، رغم اتجاهه الإيجابي العام، قائم بالأصل على تحليل خاطئ عندما يقول بأن على الولايات المتحدة أن تتخلى عن أجندة الديمقراطية التي لم تتوفر شروط تحقيقها بعد كي تركز على الاستقرار، كما لو أن واشنطن ذهبت إلى العراق بالفعل لنشر الديمقراطية لا للسيطرة على العراق وضرب قوته العسكرية والاستراتيجية في إطار السيطرة على المنطقة، والاستفراد بمواردها النفطية، وتعزيز مكانة إسرائيل الإقليمية، وتأمين وجودها لعقود طويلة قادمة.
ومن جهة ثانية لم تخدم هذه الضغوط التي مارستها واشنطن على دمشق لدفعها إلى تعاون أكبر معها، ومن دون ثمن، وهو مكمن خطئها الحقيقي، مراهنة على الابتزاز بالقوة، التحولات الديمقراطية في سوريا، لا على مستوى دفع النظام إلى الانفتاح على المجتمع، أو على الطبقة الوسطى، كما كانت تشير بعض التصريحات والتحليلات الأميركية، ولا على مستوى تعزيز موقف القوى الديمقراطية السورية نفسها. إن ما حصل كان عكس ذلك تماماً، أعني انغلاق النظام بشكل أكبر، ورجوعه عن فكرة الإصلاحات المحدودة التي أطلقها بداية، وارتداده ضد القوى الديمقراطية التي تعرضت لأقسى عملية قهر وقمع وإقصاء وتشهير عرفتها في تاريخها منذ قيام نظام quot;البعثquot; في 8 مارس 1963.
ولا تختلف المغريات التي تقدمها الدول الغربية اليوم، عبر فتح الحوار أو الوعد بمساعدات اقتصادية واستثمارات، في غايتها عما كانت تهدف إليه الضغوط الكبيرة التي استخدمتها في السنوات الماضية. فكلاهما يسعيان إلى ضمان تعاون هذه الأنظمة معها على حساب مصالح الشعوب وفي سبيل تحييدها.
لذلك فالمهم هو الاستمرار في بناء قوى التغيير الداخلية، التي لا بد منها لمواجهة كل الاحتمالات وتحقيق مشروع الإصلاح، وتحمل مسؤولية بناء المؤسسات الديمقراطية المرتبطة به. وهو ما يستدعي المراهنة على نجاعة العمل السياسي المنظم والطويل المدى، بعيداً عن التعلق بأوهام التدخلات الخارجية التي قدم عراق ما بعد صدام أفضل دليل على بطلان مزاعمها وأخطارها.
وكما كان من الصحيح سياسياً في الأمس عدم مراهنة المعارضة على سياسات التدخل الأجنبية لتحقيق أحد أعظم الأهداف الوطنية، أي الديمقراطية، ليس هناك ما يستدعي اليوم الخوف من سعي القوى الدولية إلى إعادة فتح الحوار، حتى لو جاء ذلك على حساب العودة عن شعارات تأييد التحولات الديمقراطية والتركيز بالمقابل على مسائل الأمن والاستقرار في المنطقة.
موقف المعارضة الديمقراطية العربية من الضغوط والتفاهمات واضح وينبغي أن يظل كذلك. فنحن لا نريد من الدول الكبرى ضغوطاً ولا تفاهمات. نريد منها حلولاً للقضايا الرئيسية الكبرى التي تكبلنا وتمكن السلطة من الاستفراد بنا واستعبادنا، وفي مقدمها قضية الاحتلالات والهيمنة الإسرائيلية، وقضية السلام والأمن الإقليمي في المنطقة- وهذا الأخير يدخل مرحلة جديدة مع السباق على امتلاك الأسلحة النووية- وقضية التنمية والتقدم العلمي والتقني... ومفاتيح هذه القضايا جميعاً في يدها هي، وليس في يد أي من نظمنا. وقد احتفظت بها في يدها عندما نجحت في تفريغ هذه النظم من سيادتها، وأغلقت طريق التعاون الفعال والعمل المشترك بين البلدان العربية، وحرمتها من التطور العلمي والتقني، وعقمتها بنار التفوق العسكري الإسرائيلي الكاوية، لتبقيها أسيرة سياساتها، وتحولها إلى أدوات في خدمة استراتيجياتها. إن الشروع في حل هذه القضايا الكبرى، التي قامت استراتيجية الضغوط للهرب منها، سيكون أكبر مساهمة تقدمها لنا الدول الغربية لتحقيق الديمقراطية. ولو سارت الأمور في هذا الاتجاه ستكون الشعوب العربية قادرة لوحدها على مواجهة تحديات انتقالها السلمي نحو الديمقراطية. وبدل الضغوط والتهديدات سيكون التعاون الدولي هو الوسيلة الأقوى للدفع في اتجاه التحولات السياسية الإيجابية في دول العالم أجمع.
التعليقات