22 يناير 2007
عائشة المري
كان موضوع quot;البدونquot; عنواناً مستتراً، حديثاً محرماً، بمثابة تابو اجتماعي وإعلامي، فهم فئة موجودة وغير موجودة، quot;غير محددي الجنسيةquot; أم quot;بدون جنسيةquot; أصلاً. صحيح، لم يقدم آباؤهم من كواكب أخرى، فلماذا هم quot;بدونquot; إن كانوا بدون؟ هل يبحثون عن وطن بديل لوطن بعيد قريب؟ أسئلة مشروعة لا تحمل اتهامات ولا تقرر حقائق، فهم من أتباع دول أخرى، لكنهم قرروا في لحظة تاريخية الاستقرار في دولة الإمارات أو غيرها من الدول الخليجية النفطية بحثاً عن الرزق وطلباً للاستقرار، وتلك نقطة محورية في ملف شائك ومعقد. تجادل الحكومات بأن العديد من هؤلاء يخفون وثائقهم الرسمية، أو يملكون قدرة الحصول على الجنسية من دولهم الأم، لكنهم لا يرغبون في إظهارها طمعاً في جنسية جديدة تمنح امتيازات مادية ومعنوية. وبدورهم يرفض quot;البدونquot; هذا التبسيط لقضيتهم، والتعميم على بعض الممارسات التي أساءت لقضيتهم، فقضية quot;البدونquot; معادلة بسيطة بالنسبة للحكومات مارست على أساسها كافة الضغوطات من حرمان من الحصول على شهادات الميلاد والوفاة، عقود الزواج والطلاق، التعليم، وثائق السفر، التملك ..الخ، أي الوجود القانوني من أجل دفعهم لاستخراج وثائق من دولهم. نجحت الدول في مسعاها أحياناً، وظهر إجحاف التعميم في حالات إنسانية تفاقمت أوضاعها مع مرور السنين حرماناً من أبسط الحقوق الإنسانية.
شكلت مشكلة عديمي الجنسية في دولة الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج قضية مستعصية تفاقمت مع مرور السنوات، مشكلة تراوحت حدتها بين دولة خليجية وأخرى لكنها تستند إلى ذات الحيثيات، فالجنسية والهوية السياسية من أكثر المواضيع حساسية في منطقة الخليج التي أصبحت وبعد الثروة النفطية نقطة جذب للباحثين عن فرص عمل والمهاجرين من أوطانهم بحثاً عن وطن بديل وفرصة جديدة، لكن نتيجة للضآلة العددية السكانية في هذه الدول ومع الترحال والاستقرار لأعداد كبيرة من البشر من الدول المجاورة فقد أصبح موضوع quot;الجنسيةquot; موضوعاً حساساً لارتباطه بامتيازات يحصل عليها تلقائياً صاحبها من امتيازات للمواطنة مادية ومعنوية ونتيجة لترسخ مفهوم الدولة الريعية خاصة مع بداية تشكل الدول الخليجية، أصبح الحفاظ على هذه الامتيازات والحرص على منحها لعدد محدود من طالبيها سياسة عامة ونهجاً لم يبنَ أحياناً على أسس موضوعية للاختيار والتقييم فسقط في فخ الاعتبارات الشخصية والمصالح فحرمت فئات كانت أكثر استحقاقاً وأعطيت لفئات مازالت علامات الاستفهام تدور حولها، كما أن اتباع سياسة تأجيل البت في هذا الملف العالق جعله ملفاً مقيماً على طاولات منظمات حقوق الإنسان، فانتقل الحديث من حديث خافت يدور في الردهات إلى أروقة المنظمات الدولية، لتواجه الدول الخليجية إشكالية مثلث الوطن والموطن والجذور، وقبل ذلك الانتماء.
سعت دولة الإمارات إلى إيجاد حل نهائي لمشكلة هي إنسانية قبل أن تكون سياسية، ومن منطلق الأمن الاجتماعي فقد أصدر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة قرار المجلس الأعلى للاتحاد رقم (2) لسنة 2005 في شأن مشكلة عديمي الجنسية، والذي جاء فيه الموافقة على حل مشكلة عديمي الجنسية ومن يندرجون تحت مسمى quot;البدونquot;، كما كلف لجان المتابعة الإسراع في تقديم مرئياتها في هذا الشأن في أقرب وقت ممكن. وقد اشترطت اللجنة أن يكون المستحقون مقيمين بصورة دائمة ومتواصلة في الدولة منذ ما قبل الاتحاد في الثاني من ديسمبر 1971، وألا يخفوا أية معلومات أو وثائق من شأنها أن تدل على جنسيتهم السابقة، وأن يكونوا من حسني السيرة والسلوك ولم يرتكبوا أية جرائم مخلة بالشرف والأمانة. قرار من شأنه إيجاد حل دائم ومتكامل لهذه القضية، من شأنه أن يؤسس لمجتمع يرتكز على العدالة الاجتماعية لفئات ظلمت لفترت طويلة، حل لفئة قدرتها السلطات بنحو عشرة آلاف ممن سكنوا الإمارات قبل قيام الاتحاد عام 1971، ولعل الحديث عن قضية quot;البدونquot; ما هو إلا مدخل للحديث عن قضية أوسع في مفهومها وانعكاساتها وهي المواطنة.
يصعب تحديد معنى شامل وجامع عند الحديث عن المواطنة، فهي مفهوم تاريخي قبل أن تكون تعبيراً سياسياً يختلف ويتأثر بالوعي السياسي وتحضر المجتمع البشري، إلا أن جوهر المواطنة هو الانتماء، انتماء يتجاوز الأشكال الأولية في المجتمع من قبيلة، عشيرة، طائفة إلى الجماعة الوطنية. إلا أن هذا تبسيط لواقع شديد التعقيد بمعنى أن الانتماء للوطن يتمايز عن الانتماء للموطن الذي يستقر فيه الإنسان للإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية. أما الوطن فهو المكان الذي ينتمي إليه الفرد من خلال انتمائه لجماعة هذا الوطن، واندماجه مع النسيج الاجتماعي والثقافي لذا البلد، على الرغم من أن الفرد في كلتا الحالتين يعتبر مواطناً ومشاركاً ومنتمياً من الناحية الاجتماعية والجغرافية إلا أن مشاركته وانتماءه في الوطن تكون من ناحية اجتماعية سياسية، فهو وطن لا موطن. وفي الوطن لا الموطن يتحقق الاندماج الوطني وتصبح المصلحة العامة دافعاً للمواطنين للتحرك نحو اكتساب الحقوق بأبعادها: الاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية والمشاركة بشتى أنواعها ومجالاتها والمساواة، بين الجميع من دون تمييز لأي اعتبار، واقتسام الموارد العامة.
تحمل قضية الجنسية ومعها الهوية مشكلات كالانتماء والولاء السياسي فإذا كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة قد نجحت في صهر الفئات المجنسة في النسيج الاجتماعي للدولة وضمن الشخصية الثقافية الوطنية اعتبر فيها الاختلاف العرقي أو الإثني أو الديني إضافة للتنوع الثقافي فهذا لا يعني أن نجاح الدول الأخرى في عملية الصهر أمر محتوم خاصة الدول حديثة العهد بالمفاهيم السياسية المرتبطة بالمواطنة والوطن. فدولة الإمارات وبعد خمسة وثلاثين عاماً من عمر الدولة الاتحادية مازال فيها الحديث عن الوطن والمواطنة والانتماء في صلب العملية السياسية في الدولة وفي سعي الدولة نحو صهر مواطنيها، والخروج من دائرة الدولة الريعية إلى الدولة الحديثة. النقطة المحورية في هذا الطرح أن عنصر الانتماء هو المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة وبدونه لا قيمة للمواطنة التي تبقى مجرد جنسية تمنح حقوقاً وتفرض واجبات ولا تعبر إلا عن التابعية ووثيقة سفر لاجتياز الحدود، وهو حديث لا يفهم منه التشكيك في الولاء أو الانتماء بقدر ما هو حديث عن المسؤوليات الملقاة على عاتق الدولة اليوم لتقوم بعملية صهر ودمج لكافة الفئات الاجتماعية في المجتمع وذلك بشكل أساسي من خلال ممارسة الدولة لمسؤولياتها بغرس التربية المواطنية أو التربية الوطنية عبر إقرار الدولة تدريس مناهج التربية الوطنية لكافة المستويات الدراسية وتعميم السياسات الإعلامية التي تنمي الانتماء وتعزز قيم المساواة والعدالة بين مواطنيها، حيث تقوم هذه التربية بزرع مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات للأفراد وللدولة، كما تعمل على غرس الشعور بالانتماء داخل نفس الفرد وهذا الأخير هو المعنى الحقيقي للمواطنة.
التعليقات