مأمون فندي
كانت ولا تزال إسرائيل تحتل فلسطين الأرض، بينما فلسطين بمعناها الرمزي بقيت حكرا على القوميين العرب إلى أن وصلت حركة laquo;حماسraquo; إلى السلطة. بوصول حماس، التي لا يغفل أحد عن أنها جماعة الإخوان المسلمين ـ فرع فلسطين، تغيرت مفردات الحديث عن القضية الرمز من مفردات قومية عروبية إلى مفردات إخوانية دينية. وأصبح الصراع اليوم صراعا على من يحتل فلسطين الرمز، هل الإخوان، ممثلين بـlaquo;حماسraquo; أم القوميون ممثلين بـlaquo;فتحraquo;، وأصبح الصراع لأجل تحرير فلسطين الأرض في مرتبة ثانية بعد الصراع على تحرير فلسطين الرمز من القوميين العرب، ووضع قدس أقداس السياسة العربية في يد الإخوان المسلمين.
ترى ماذا يعني أن يحتل الإخوان المسلمون فلسطين الرمز، بالنسبة للقضية الفلسطينية ذاتها، وبالنسبة للمنطقة بأكملها؟
خمسون عاما مرت، والشعوب العربية تحشد وراء شعار قومجي هو laquo;لا صوت يعلو فوق صوت المعركةraquo;. شعار يستخدم الخارج لحماية الداخل. أي أن مهمة الخطاب القومجي الأساسية كانت تصدير مشاكل الداخل إلى الخارج. خمسون عاما والحكومات العربية مبتزة أيضا من بعض القيادات الفلسطينية التي كانت تصدر إليهم مأساة الفلسطينيين فى الاتجاه المعاكس بقصد تهييج شعوبهم. كان التهييج وقتئذ قومجيا، أما اليوم، وبعد أن احتل الإخوان المسلمون جزءا كبيرا من فلسطين الرمز، أصبح التهييج إسلامويا، واختلط الداخل بالخارج، ذلك لأن بنية خطاب الإخوان الفكرية لا تقوم على فصل الداخل عن الخارج، فهي ايديولوجية تحلق فوق الدولة.. ألم يقل المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر المحروسة، انه لا مشكلة لديه في أن يحكم مصر ماليزي مسلم، ولا أن يحكمها مصري قبطي!! كما أن سيطرة الإخوان على فلسطين الرمز يعني تديين القضية، وهنا تكمن الخطورة..
تديين القضية الفلسطينية أولا يجعل للماليزي المسلم حقا في فلسطين أكبر من حق الفلسطيني المسيحي، كذلك ينقلها من صراع على الأرض قابل للحل، إلى صراع ديني لا يقبل حلا إلا بعد خراب المنطقة بأكملها. هذا الخراب بدأ في الداخل الفلسطيني من خلال إرهاصات حرب أهلية فلسطينية. أما على المستوى الإقليمي، فسأوضح أبعاد خطر تديين القضية الفلسطينية على بلدين مهمين في العالم العربي، مصر وسورية.
نجاح الإخوان المسلمين في فلسطين يعني laquo;خربطةraquo; في الداخل المصري، فمصر تشهد اليوم معركة شرسة بين الحزب الوطني الحاكم وبين حزب الإخوان المحظور، والمعركة على ما يبدو تتجه لصالح الإخوان. لقد كان واضحا في التداعيات الملتهبة التي أعقبت تصريح وزير الثقافة المصري فاروق حسني حول الحجاب، أن الإخوان داخل الحزب الوطني ربما أكثر من الإخوان داخل الجماعة المحظورة، وأن الإخوان اخترقوا كل أجهزة الدولة في مصر، وربما كانت الصحافة المصرية خير دليل على هذا الاختراق، ففي الصحف الحكومية المصرية تكون الصفحة الأولى والأخيرة للحزب الحاكم، بينما تبقى العشرون صفحة داخل كل صحيفة للإخوان، يجول ويصول فيها كتابهم ومنظروهم ومروجوهم. إن من يقرأ الصحافة المصرية اليوم لن تفوته ملاحظة أن مصر تعيش في حقبة الإخوان المسلمين.
في مصر، كما قال لي أحد أعضاء الحزب الوطني، laquo;هناك حزب واحد، هو الإخوان المسلمونraquo;. الإخوان، وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاما، قد تمكنوا من الداخل المصري بشوارعه ومؤسساته وصحافته، ولم يبق يفصل بينهم وبين السلطة سوى القضايا الخارجية، وأولها قضية فلسطين. فإذا ما نجح الإخوان المسلمون في فلسطين، سوف يضعون إخوان مصر على قمة الهرم السياسي المصري، وسوف نرى اسماعيل هنية يأتي مصر قاصدا مكتب الإخوان المسلمين ـ فرع القاهرة، بدلا من لقائه مسؤولي الدولة المصرية، كما سنسمعه (هنية) يدافع من غزة عن إخوان مصر، مضفيا عليهم شرعية القضية الفلسطينية التي لا تقبل المساس في الذهنية العربية.
أما سورية، فهي مرشحة لاحتلال إخواني بامتياز. فحزب البعث العلماني الحاكم في دمشق يستند في شرعيته إلى عكازين إسلاميين: شيعي وسني. الأول يتمثل في laquo;حزب اللهraquo;. (وفي سابقة غير مشهودة في تاريخ سورية laquo;الأسدينraquo;، يرفع السوريون اليوم صورة حسن نصر الله إلى جانب صورة رئيسهم). أما العكاز السني فهو حركة laquo;حماسraquo;، ممثلة برجلها المقيم في دمشق، خالد مشعل.
في حال تديين القضية الفلسطينية إخوانيا، لن يبق للأسد أي من العكازين، وربما يسقط وتسقط سورية معه أيضا في يد الإخوان المسلمين الذين كانت لهم جولاتهم الدامية في عهد الأسد الأب، والذين بكل تأكيد ما زالوا يطمحون إلى جولات جديدة توصلهم إلى كراسي الحكم في دمشق. ربما يحقق النظام السوري اليوم من خلال خالد مشعل مكاسب تكتيكية، لكنها قد تكون سببا في انهياره على المدى القريب أو المتوسط.
للإخوان المسلمين أدواتهم الإعلامية العابرة للحدود، من صحف وقنوات فضائية تمكنت من عقول الملايين، ليس في مصر وسورية فحسب، بل في العالم العربي بأسره. إعلام موجه ومدروس يكفر ويخون من يختلف معه، إعلام تجرأ ليكون طرفا في القضية الفلسطينية ذاتها.
laquo;إنها قناة الإخوان المسلمينraquo;. هكذا قال محمد دحلان الفتحاوي القوي، واصفا قناة laquo;الجزيرةraquo;، وهي بلا منازع أكبر قناة إخبارية عربية اليوم. في حال احتلال الإخوان لفلسطين الرمز، ستكون قناة الإخوان (الجزيرة سابقا) أداة للترويج لهذا الترميز الديني الجديد للقضية الفلسطينية.
laquo;الجزيرةraquo; لا تضيع وقتا، فهي تروج منذ الآن لمهدي عاكف وجماعته على حساب الدولة المصرية، وللبيانوني وحزبه على حساب الدولة السورية، ولإخوان الجزائر على حساب الدولة الجزائرية.. وإذا ما شاهدت برنامجا حواريا يقدم على شاشتها من قبل إعلامي غير مسلم ، لأدهشتك استماتته في الدفاع عن الإخوان المسلمين، ولظننت أنه في نهاية البرنامج سينطق بالشهادتين.
إن احتلال الإخوان المسلمين لفلسطين الرمز لن يحرر فلسطين الأرض، قبل أن يخضع الإخوان العالم العربي كله للسيطرة الإخوانية. فأولوية الإخوان هي القضاء على العدو القريب (الدول العربية القائمة)، لإعداد العدة لمواجهة العدو البعيد (إسرائيل).
ربما لهذا السبب، مهد رابين في عام 89 لظهور جماعة laquo;حماسraquo; بغرض إزاحة منظمة التحرير الفلسطينية بعيدا عن حلبة الصراع. إسرائيل أصبحت اليوم تعارض laquo;حماسraquo; لعلمها ان ذلك سيجعل من laquo;حماسraquo; معبودة الجماهير العربية. كل من تعاديه إسرائيل يصبح بطلا في العالم العربي، وهي ليست غافلة عن هذه السيكولوجية العربية. تلك هي رؤية إسرائيل بعيدة المدى، كي تمنح نفسها ربما مهلة خمسين عاما أخرى قبل أن يفرغ الإخوان من (تحرير) الدول العربية، ليلتفتوا بعد ذلك إلى تحرير فلسطين.
التعليقات