29 يناير 2007
ديفيد بروكس
خلال صيف عام 1995، كانquot; إدوارد جوزيفquot; ضمن جنود حفظ السلام في البوسنة، وطُلب منه في ذلك الوقت مساعدة نساء وأطفال مسلمين على الفرار من نقطة كانت تقع بالقرب من quot;سريبرينيتشاquot; التي كان 7000 مسلم ومسلمة قد تعرضوا فيها للذبح بالفعل على أيدي الصرب. وما قام به جوزيف كان محلاً لخلاف في ذلك الوقت. فعلى العكس كان المفوض الأعلى لشؤون اللاجئين التابع للأمم المتحدة، لا يوافق على مشاركة جنود حفظ السلام في جهود مساعدة السكان على مغادرة الأماكن التي كانوا يقيمون فيها، على أساس أن ذلك لم يكن ليؤدي سوى إلى تعزيز عملية التطهير العرقي التي كانت تتم آنذاك. لقد كان هذا هو رأي المسؤول الأممي لأنه لم يكن يرى على ما يبدو جموع النساء البوسنيات اللائي كنَّ يصرخن في فزع كلما مرت أمامهن عربة جيب صربية عسكرية. أما جوزيف فقد كان يرى ذلك وهو ما دفعه للتصرف على النحو الذي تصرف به. إن الحديث عن المصالحة والتسوية قد يبدو سلوكاً سامياً عندما يتم من بعيد. ولكنك عندما تجد نفسك في أتون حرب أهلية، وغير قادر على حماية أهلك، فإن الأمر سيختلف جد الاختلاف.
في ذلك الوقت توصل زعماء الطوائف المشتبكة في الحرب في البوسنة -بشكل تدريجي- إلى قناعة بأن مصلحتهم تقتضي الفصل بين شعوبهم. وبمجرد أن تم توفير ملاذات آمنة للجماعات العرقية المختلفة فإن الحديث عن المفاوضات والتسوية أصبح ممكناً.
واليوم فإن الكثيرين في البوسنة يعتقدون أن لديهم نموذجاً يمكن أن يكون مفيداً في تحقيق الاستقرار في العراق. وهؤلاء يقرون بأن هناك الكثير من نواحي الاختلاف بين الأوضاع في العراق حالياً والأوضاع في البوسنة في تسعينيات القرن الماضي، ولكن ذلك يجب ألا يحول دون لاستفادة من نموذجهم وخصوصاً أن العراق دولة قد دخلت بالفعل في مرحلة التحلل.
فالتطهير العرقي يقسم بغداد، والملايين من السكان ينتقلون من مكان لآخر، والآلاف يموتون، والمستقبل يبدو مخيفاً.
والحل الوحيد لذلك الوضع المأساوي هو quot;الفصل الليِّنquot;: أي تكوين حكومة مركزية ليس لديها سوى صلاحيات محدودة، مع تعزيز نفوذ وسلطة الحكومات الإقليمية، والعمل على الفصل بين المجموعات الطائفية قدر الإمكان، وهو ما يتطلب عملياً إجراء تعديل على الدستور العراقي.
وكما يرى السيناتورquot;جوزيف بايدنquot; فإن ذلك الدستور قد قطع شوطاً بعيداً تجاه إلغاء مركزية الدولة، حيث يمنح المحافظات المختلفة صلاحية تكوين قوات أمن خاصة، وإرسال سفراء إلى الدول الأجنبية، والانضمام إلى غيرها من المحافظات إذا ما رغبت في أن تدخل ضمن مناطق جديدة. وهذا يعني أن اللامركزية لم تكن إملاءً أميركياً وإنما هي في الحقيقة فكرة عراقية.
ولكن السيناتور quot;بايدنquot; يضيف إلى ذلك أن الدستور لم يتضمن بعد مواد تحدد الطريقة التي سيتم بها التوزيع العادل لعوائد النفط والغاز، وأن السُّنة لن يقنعوا أبداً بمساحة معظمها صحراوي ما لم يضمن لهم الدستور 20 في المئة على الأقل من ثروات البلاد.
والخطوة الثانية بعد ذلك في سياق quot;الفصل الليِّنquot; هي الحصول على موافقة ضمنية من جميع الطوائف على أن الفيدرالية ستكون في مصلحتهم. فالشيعة يجب أن يقبلوا بحقيقة أن العراق لن يشهد استقراراً على الإطلاق إذا ما تم تهميش السُّنة وجعلهم في وضعية التابعين، والأكراد يجب أن يقبلوا بحقيقة أن تحقيق السلام والاستقرار سيتطلب تسوية بشأن أراضٍ في كركوك. أما السُّنة فيتعين عليهم أن يقبلوا بحقيقة أنهم لن يستطيعوا أبداً إدارة العراق بعد الآن، وأن الحصول على منطقة سُنية قوية أفضل لهم.
وحسبما يقول quot;ليس جيلبquot; فإنه وما لم تدفع شهوة الانتقام الأعمى زعماء العراق إلى تخطي حدود المنطق، فإن هؤلاء الزعماء يجب أن يقتنعوا بضرورة البحث عن مكمن مصالحهم.
والخطوة الثالثة، هي ترحيل السكان إلى مناطق جديدة. وستتطلب هذه الخطوة استخدام القوات الأميركية والقوات العراقية لرعاية السكان الذين يريدون الرحيل إلى مناطق يحسون فيها بالأمان، كما ستتطلب إلى جانب ذلك تقديم مساعدات إنسانية حتى يستطيع السكان المرحّلون الوقوف على أقدامهم مجدداً في الأماكن التي سينتقلون إليها.
أما الخطوة الرابعة فهي جعل جيران العراق يساهمون في هذه الترتيبات. فعلى ما يفترض فإن إيران والسعودية لا تسعيان إلى حدوث حالة من الفوضى العارمة في العراق، كما أنهما لا ترغبان في خوض حرب من خلال وكلاء عقب رحيل القوات الأميركية.
أما تركيا فيجب طمأنتها بأن تلك الترتيبات لن تعني أبداً إقامة دولة كردية مستقلة.
إن أكبر اعتراض قد يواجه عملية quot;الفصل الليِّنquot; بين الشيعة والسُّنة هو أن الطائفتين متداخلتان في بعض المناطق في بغداد بطريقة تجعل الفصل بينهما مستحيلاً، بيد أن هذا الاعتراض -وللأسف الشديد تتضاءل أهميته يوماً بعد يوم. ومع ذلك، فإن الأمر سيتطلب وجود قوات لحفظ السلام في الأحياء التي لا تزال مختلطة، على أن تكون تلك المناطق مفتوحة لإنشاء بنيات أمنية مبتكرة بأمل أن يؤدي التخفيف من خطورة الموقف ومرارة المشاعر في النهاية إلى تقليص العنف في المناطق الذي تتماس فيها جماعات مختلفة.
وباختصار يمكن القول إن المنطق، والظروف، والاعتبارات السياسية، كلها تقود نحو خيار quot;الفصل الليِّنquot;. لقد تباطأت إدارة بوش في إدراك مزايا هذا الخيار لأنها اعتمدت بأكثر مما ينبغي على عراقييّ المنطقة الخضراء، الذين يتحدثون كثيراً عن الوحدة الوطنية، ولكن أفعالهم توحي بأنهم يسعون إلى اللامركزية.
وفي رأيي أن الجميع -إن عاجلاً أم آجلاً- سيستقرون على هذه السياسة المعقولة بعد أن يكونوا قد استنفدوا كافة البدائل الأخرى.
التعليقات