29 يناير 2007

د. حسن مدن


في إحدى محاضراته أعطى الراحل ادوارد سعيد مثالا من واقع تجربته الشخصية، يتصل بسعر الأدوية في الولايات المتحدة، حيث عاش الرجل ومات. فإذا كنت تشكو من مرض خطير فانك لا تلبث أن تغوص في عالم من المنتجات الصيدلانية المرتفعة الثمن إلى حد يثير الاستهجان، علما أن العديد منها لا يزال في طور الاختبار، ويتطلب استخدامه موافقة السلطات الفيدرالية، وحتى تلك الأدوية المتاحة والتي لا يتطلب استخدامها مثل هذه الموافقة، فإنها تباع بأثمان باهظة، والجدل مع الشركات المنتجة لن يكون مجديا، لأنها تقر أن كلفة إنتاج هذه الأدوية منخفضة جداً بالقياس للأسعار التي تباع بها، لكنها تعزو هذه الزيادة إلى كلفة الأبحاث التي أجريت لتطوير هذه العقاقير، وهي كلفة يجب استردادها من خلال مبيعات الأدوية، حسب منطق المنتجين، خاصة أنها أدوية يمكن أن تنقذ حياة الكثيرين من الموت المحقق كما تقول الشركات المنتجة، وقد تكون في الكثير من الحالات على حق فيما يتصل بهذه الجزئية، لكن المذهل هو ما يورده ادوارد سعيد حين نكتشف أن معظم اكلاف الأبحاث قد ورد إلى الشركة على شكل منح حكومية، وهذه بدورها واردة من الضرائب التي يدفعها المواطنون أجمعين، كأن المواطن في هذه الحالة يدفع لشراء الدواء مرتين أو أكثر من ماله الخاص، مرة على شكل ضرائب مقتطعة من مرتبه ومرة على شكل الثمن الذي يدفعه لشراء هذا الدواء .

لن تنتهي المفارقة هنا، لان ادوارد سعيد كان بصدد تقصي أخطبوط النفوذ الكبير الذي تمثله شركات الأدوية، وهو نفوذ يمتد نحو الحياة السياسية، بهدف مصادرتها أو تأميمها بحيث لا يعود الناشطون فيها قادرين على التحرك المستقل، ومن أمثلة ذلك أن مرشحاً ليبرالياً وذا تفكير تقدمي مثل بيل برادلي نجم كرة السلة السابق الذي تحول إلى السياسة وخاض الانتخابات الرئاسية الأولية لاختيار الحزب الديمقراطي مرشحه للرئاسيات عام 1999 لكنه هزم أمام آل غور نائب الرئيس بيل كلينتون، تهرب من الإجابة عن سؤال حول هذا الأمر، ليتضح فيما بعد انه تلقى مساعدات مالية كبيرة لحملته الانتخابية من كبريات شركات الأدوية والإعلام، مما يجعله في وضع العاجز عن تحدي داعميه رغم معرفته بأنهم طرف في الفساد وفي الثراء الفاحش غير المشروع.

سيذهب ادوارد سعيد أكثر في شرحه وهو يوضح لماذا لم يصوت الكونجرس على تشريع يضمن حقوق المرضى من استغلال شركات الأدوية وسواها، لنكتشف هنا أيضا أن شركات التأمين التي تحقق معدلات عالية جدا من الأرباح عملت على تشكيل ldquo;لوبيrdquo; دائم يعيق صدور مثل هذا التشريع حماية لمصالحها.

لم يكن أمر الأدوية هو الذي أراد ادوارد سعيد الحديث عنه في واحدة من محاضراته الأخيرة قبل رحيله المبكر، والتي خصصها لما وصفه ب ldquo;الدور العموميrdquo; للكتاب والمثقفين، وإنما هو توقف أمام هذا المثل في معرض شرحه للمدى الذي بلغته الشركات الكبرى وأباطرة رأس المال في اختراق أوجه الحياة المختلفة، لا في الولايات المتحدة وحدها، وإنما على المستوى الكوني، مما يجعل من الحاجة إلى الدور النقدي للمثقف حاجة ملحة في عالم اليوم، حيث تنعقد مواجهة مباشرة مع النظام العالمي السائد، على هذا الشكل أو ذاك من المدى الجغرافي أو الموقع أو الإشكالية المحددة، حيث تخاض المبارزات التي ربما ينعقد الفوز فيها أو على الأقل في بعضها.