ماجد الشيخ

الوقائع التي تحاول إسرائيل فرضها على الأرض الفلسطينية، وممارساتها القمعية والاستيطانية، لا تحمل أي مؤشرات الى إمكان التفاوض للوصول الى حل سياسي، يفضي الى قيام دولة فلسطينية مستقلة وفق المفهوم الفلسطيني والعربي. ما يجرى عملياً هو استمرار لبناء منظومة فصل عنصري جديدة، إلى جانب جدار الفصل العنصري الذي دانته محكمة العدل الدولية ومؤسسات دولية أخرى، ومحاولة لرسم حدود الكيان الفلسطيني وفق التصور الاسرائيلي - الاميركي الذي يعاكس؛ بل يتنافى والتطلع الوطني الفلسطيني للدولة، بحيث يستحيل قيام دولة فلسطينية مستقلة فعلياً ومتواصلة جغرافياً، على أساس من قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.

دعوة الرئيس جورج بوش الى laquo;خريطة طريقraquo;، تفضي الى قيام كيان فلسطيني إلى جانب الكيان الإسرائيلي، ولم يتجسد حتى اللحظة ما يشير الى جدية تلك الدعوة التي كان من المفترض أن تصل إلى نهايات منطقية لها قبل عامين مضيا. وعلى رغم ذلك، فإن دعوة الرئيس بوش الى مؤتمر أو لقاء أو اجتماع laquo;أنابوليسraquo; المزمع هذا الخريف، لا تمكن مقاربتها والجدية المطلوبة في مثل هذا الوضع، نظراً الى حاجة البيت الأبيض إلى إرساء اختراق هنا (في فلسطين) لإنقاذ ماء وجهه هناك (في العراق).

في مثل هذه الأجواء الملبدة، وإذ تترك واشنطن لحكومة أولمرت أن تضيء على الهدف الأميركي - الإسرائيلي المشترك، إزاء المفاوضات مع الجانب الفلسطيني في تغذية أوهام الحلول السياسية، في ظل هذا الانقسام السياسي والجغرافي، فلكي يتكرس هذا الانقسام ويكرس معه وقائع على الأرض، تنسف معها كل منجزات الوضع الوطني الفلسطيني وبأيدٍ فلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى بهدف تشجيع الحكومة الاسرائيلية على مواصلة فرض المزيد من الوقائع على الأرض التي تحول دون التوصل الى حل سياسي تفاوضي، وفرض حل آخر يبرز وجود كيان فلسطيني تابع، ويغيب إمكان قيام دولة فلسطينية مستقلة، فيما المطلوب خروج الاحتلال الإسرائيلي أولاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وفق منظور التسوية الراهن، وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية وإعلان الاستقلال الفلسطيني.

وفي مستهل اللقاءات التي بدأها الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي أولمرت منذ آب (أغسطس) الماضي وحتى اللقاء الأخير قبل أيام، وكخطوة استباقية تحضيرية لـ laquo;مؤتمر الخريفraquo; العتيد، بُحثت سبل التوصل الى laquo;مذكرة تفاهمraquo; حول قضايا الحل النهائي وإقامة دولة فلسطينية تشكل بحسب وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني laquo;الحل الأبدي لقضية اللاجئينraquo;، أي أن الاسرائيليين يريدون دفن قضية اللاجئين داخل حدود الدولة الفلسطينية غير المعروفة وغير المحددة بعد، وهي الحدود التي يتعين عليها احتواء القضية الوطنية الفلسطينية بمعنى تصفيتها، لا إيجاد حل متفاوض عليه إزاءها.

وقد لوحظ في الأيام القليلة الماضية أن حكومة أولمرت رفعت من وتيرة حملتها الإعلامية بهدف خفض سقف التوقعات من laquo;مؤتمر الخريفraquo;، الذي تستضيفه laquo;أنابوليسraquo; قرب واشنطن، وحذرت من عواقب توقعات مبالغ فيها، مؤكدة أن تناول القضايا الجوهرية للصراع (القدس واللاجئون والحدود) في المؤتمر ليس وارداً ولا واقعياً حتى وإن كان الثمن فشله.

وأشارت صحيفة laquo;هآرتسraquo; (30/9) الى أن إسرائيل أوضحت للرئيس الفلسطيني أنها لن تعلن في المؤتمر ما سمته laquo;تنازلات تاريخيةraquo; في أي من القضايا الجوهرية الثلاث (الحدود الدائمة وتقسيم القدس والاعتراف بمسؤوليتها عن قضية اللاجئين)، معيدة التذكير بتصريحات أولمرت التي أكد فيها أن إسرائبل لا تعتزم أن تتوصل حتى موعد اللقاء ndash; المؤتمر الى اتفاق مبادئ في شأن التسوية النهائية، حتى ولو كان الثمن فشل المؤتمر.

أما وزيرة الخارجية ليفني، فتوجهت الى العرب برسالة مفادها أن laquo;عليهم ألا يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهمraquo;، وأن laquo;يتيحوا لهم تحديد مصيرهمraquo;، وأنه laquo;إذا ما أراد الفلسطينيون التنازل فلا تكونوا انتم القضاة ولا تطرحوا مطالب ولا تملوا نتائج الصراعraquo;.

لهذا أبلغ أولمرت الرئيس الفلسطيني أنه يرغب في عقد لقاءين أو ثلاثة خلال الاسابيع القليلة المقبلة، بهدف بحث الأفكار قبل تشكيل فرق عمل تضع مذكرة التفاهم التي ستقدم للطرفين للموافقة عليها، في وقت أوضحت ليفني لأعضاء من الكونغرس الأميركي زاروا اسرائيل ان laquo;المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين يجب أن ترتكز على شرط أساس، هو أن جوهر إقامة دولة فلسطينية سيكون بمثابة الحل الأبدي لقضية اللاجئينraquo;، مضيفة ان laquo;عدم السماح بعودة اللاجئين الى إسرائيل مسألة مبدأ لا يمكننا المساومة فيهاraquo;.

ولهذا يناور الموقف الإسرائيلي - ومن خلفه الأميركي - من أجل الإقرار بقبول حكم إداري لدولة فلسطينية لا تمتلك من مقومات الدولة سوى الإسم. وهذا هو جوهر الخلاف الناشئ منذ أوسلو وحتى الآن، مروراً بكامب ديفيد ومفاوضات واي ريفر وواي بلانتيشن، ذلك أن ما رفضه الرئيس الراحل ياسر عرفات طوال مراحل المفاوضات اللاحقة لإقرار اتفاق أوسلو والبدء بتطبيق بنوده، لن يستطيع أي مفاوض فلسطيني آخر القبول به، ما دام يقف عند حدود إدارة دويلة laquo;تتخلىraquo; اسرائيل عن مساحتها، وبموافقة إدارة أميركية يخنقها تورطها في العراق، وتريد التخلص منه بأي ثمن، حتى ولو استدعى ذلك الضغط على اسرائيل للتخلي فعلياً عن أرض فلسطينية لمصلحة قيام دويلة laquo;الادارة الذاتيةraquo; التي لا ترقى في كل الأحوال الى مستوى دولة فعلية متواصلة وذات سيادة.

في السياق تبدو الولايات المتحدة، وللمرة الأولى في تاريخها وتاريخ هذه المنطقة، أنها بحاجة الى من يحمي مصالحها فعلياً، بعدما عجزت هي عن حماية هذه المصالح، وبعد عجز إسرائيل عملياً عن تشكيل مظلة الحماية الفعلية لهذه المصالح، التي أضرت بها السياسات المغامرة لإدارة المحافظين الجدد أكثر مما أضرت بها الأطراف الأخرى، عربية كانت أو غير عربية. على هذه الخلفية تجيء مبادرة الرئيس الأميركي لمؤتمر أو لقاء laquo;أنابوليسraquo;، في محاولة لإطلاق حجر واحد، ولكن بهدف إصابة عصفورين في وقت واحد، ولتحريك جمود التسوية السياسية: العصفور الأول يتمثل في محاولة تخليص الولايات المتحدة من ورطتها العراقية، وفي المقابل تخليص اسرائيل من ورطة حرب تموز (يوليو) وتوصيات تقرير لجنة فينوغراد النهائي، الذي تؤشر مقدماته إلى تأكيد فرضية استقالة حكومة أولمرت، جراء تحملها نتائج الإخفاق الذي واجهه جيشها.

من هنا تحديداً تنشأ ضرورة إجراء مراجعة ضرورية للموقف السياسي الفلسطيني، وذلك ضمن وسائل أخرى لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي غيبتها، النزعات الانقلابية والسلطوية، وهو ما أثر ويؤثر في إمكان تصعيد النضال ضد الاحتلال، في ظل تغييب استراتيجية كفاح شعبي وطني، باتت معه فصائل الحركة الوطنية الغارقة في النزاع على السلطة، لا تأمل بأكثر من الحفاظ على منجزات أوسلو وطنياً و laquo;ديموقراطياًraquo;، حتى ليبدو أن القضية الفلسطينية، لم تعد تمتلك الأولوية المركزية في الساحة العربية، وسط تفجرات حروب الإرهاب، وطالما أنه يجرى توظيف هذه القضية ضمن مخططات اصطفافية إلى جانب هذا الوضع الاقليمي، أو الى جانب ذاك الوضع الدولي في شرق أوسط: إسرائيل فيه دولة عادية مقبولة، وفلسطين مقبرة لدفن قضية اللاجئين.