الأربعاء 7 فبراير 2007
محمد بن سيف الرحبي
هل يمكن لأحد إغلاق أبوابه في عصر السماوات المفتوحة؟
ربما الإجابة البسيطة تقول لا، لكن المعقد في الأمر أن الأبواب قد تكون مفتوحة لكن هناك مغاليق أخرى أشد صلابة هي ترسانات العقول التي تنظر إلى الوراء أكثر من ألف سنة، رغم أنها تعيش الحاضر، بقوة آسرة، محاولة المواءمة بكل جهد للحيلولة دون تسرب ما لا يخدم قضيتها (التي لا أحد يتكهن بمدى ربحها أو خسرانها) إلى العمق، ربما كي يبقي على تلك العتمة الباهرة القادمة من دهاليز الماضي، ولا يتسرب من نور الحاضر إلا ما تعتقد أنه يلائم عتمة الماضي الباهرة.
إن حالة التمزق الذهني حاضرة بقوة المشهد الراهن، خاصة لدى الملحين على هاجس الماضي، ونورانياته المتجلية فوق قدرة الحاضر على الاحتمال، أو فوق قدرتهم على احتمال ضوء الحاضر على اعتبار أن laquo;ما مضىraquo; يمثل القدوة المثالية، ومن هنا تنشأ فكرة التناقض/الصدمة بين مستويين فكريين، أو نظرتين مترسختين في الشعور الجمعي لدى أولئك: القناعة التامة بأن الماضي يمثل قمة المثالية، والنموذج الأسمى للحياة، وهي الصورة المباشرة لتعاليم الدين والسمو الأخلاقي، تقابلها على أرض الواقع صورة ترسخت داخلهم على أنها النموذج الدنيوي، هناك يتعمق الشعور ويتعملق ليعطي دلالة على أن القطبين متنافران، مما يعكس تمزقا داخليا يساعد عليه حالة الانغلاق في المحفوظات التراثية والمنقولات المتقافزة من عصر الى عصر دون نقد.. أو حتى السماح به.
ان فكرة الأبواب المغلقة أضرت بالحضارة الاسلامية، فحين فتحت أبوابها على علوم الآخرين عاشت عصر الفتوحات الكبرى، ومن المهم أن تجد الأمة الاسلامية نفسها مرة أخرى أمام عصر الانفتاح على ما لدى الآخرين من الفكر، ليس بادعاء مسبق وافراط في تعظيم الذات، وتسخيف الفكر الآخر، انما بانفتاح ذهني يسبق فكرة قبول الآخر أو رفضه، يقول احد المفكرين أنني فتحت أبواب بيتي كي لا أترك فرصة للمتلصصين أن يتصوروني كما يشاءون، هكذا تحتاج الأمة لفتح أبوابها ملقية ثقافة الانغلاق وراء ظهرها.
ان الكثير من المفاهيم المتوارثة تحتاج الى تجديد في الرؤية، وروية في هذا التجديد، لأن الانطلاق نحو الغد ليس بهدم الماضي والتنكر له، انما بقراءته واستيعابه، ليكون رصيدا وتراكما حقيقيا، يمنح المعرفة في عصر سلاحه الأول والأخير.. المعرفة.
ان خطاب جلالة السلطان المعظم وحديثه عن الثقافة يعد خطابا تجديديا لفكرة المعرفة والعلم والثقافة في وقت يعض فيه البعض بالنواجذ على مخلفات الماضي كأنها النور الوحيد، بينما يفاجئنا العصر بأنوار شتى لا يمكننا العيش دونها، هنا يكمن سر المعرفة، كيف تكون لنا ثقافتنا ومعرفتنا وحياتنا في عصر الاختراق المعلوماتي، حيث السماوات مفتوحة فوق رؤوسنا شئنا أم أبينا، وحيث الأرض تمخرها أسلاك ومحطات ارسال تجعل من الهواء اعصارا من الذبذبات، المعلومة تصل في ثوان الى جيوبنا، صرنا أسرى لتكنولوجيا لا نفهم فيها سوى الاستهلاك، سوى الشراء بالنقود التي تحاصر كل يوم بجديد..
الرؤية تبدأ من هنا: كيف نتعلم؟ كيف نكون مؤهلين لعصرنا، كيف نكون ثقافة عصر نعيش فيه لا عصر انقرض قبل مئات السنين.
أمامنا محيط من الثقافة/المعرفة/التحدي..
فوق قدرتنا على الاستيعاب، وفي مقابل/موازاة ذلك علينا الوقوف بما أوتينا من قوة في مواجهة هذا الاعصار المعلوماتي/المعرفي، لكن كيف نقف، وبأي قوة؟
قد تتقافز الاجابات كل حسب رؤيته الايديولوجية، اما بالنكوص التام نحو التراث والأمس، أو بالتطرف المقابل نحو نسف الأعمدة التي تشكلنا منها حضاريا/بشريا عبر مراحل التاريخ العابرة لعقولنا.
في خطاب جلالته مجموعة من الرؤى والمحددات لعصر نعيش فيه، أبرزها التكيف، والقبول بما ينفعنا، وترك المضر (بهدوء وليس باثارة البلبلة)، ثم الانفتاح على (الثقافات الجديدة، ثقافات التكنولوجيا والمعرفة).
لسنا وحدنا على هذه الكرة الأرضية، ولن نكون خير أمة أخرجت للناس بفوارغ العقول والاستئناس للراحة، بناء الحضارة يبدأ من قطرة الماء، على ضفاف هذه القطرات عرف العالم الحضارات القديمة، الأمة التي تأكل مما تزرع هي الأمة القادرة على أن تكون الأفضل، بناء الحضارات ينطلق من مجموعة معطيات، علينا مواجهة متطلباتها، وقبول التحدي، نقد الذات، نقد العقل/الفكر.
لم يكن خطاب جلالته، وهو يتحدث بعفوية ومحبة، حديث نصح، بل دعوة لمواجهة الذات، نعم لقبول الحضارات والثقافات الأخرى، ولكن بشروط، علينا أن نكون أقوياء كي يمكننا الاستفادة مما لدى الآخرين من معرفة، الحضارات لا مناص لها عن بعضها البعض، قد تتقدم احداها، وقد تتراجع الأخرى، لكن هذه حال الانسانية..
ان السير نحو الأمام لا يعني التخلي عن الثوابت، فكما قال جلالته laquo;كل مجتمع له ثوابت دينية وعرفية واخلاقية معروفة، هذه الثوابت تبقى يتعلمها الجيل بعد الجيل، هذه الثوابت معروفة وموجودة في داخل الاسر وفي داخل البيوت) لكن حرصنا على هذه الثوابت يجب أن يكون متوازيا مع الرغبة في عدم غلق الأبواب، الانغلاق يأتي بالكآبة، تلك العزلة ليس لها مكان في عالم اليوم، فهي سائرة بصاحبها الى تخلف على أكثر من صعيد، نفسي واقتصادي ومعرفي.
يؤكد جلالته في حديث سيح المسرات ان العالم اصبح الان متغيرا بسرعة هائلة جدا فاذا لم نكن نحن ايضا على مستوى هذا التغير السريع فكريا وعقليا واستيعابا والا فلن تكون لنا مكانة، فالمكانة اصبحت الآن للمعرفة وللاستيعاب والبلوغ الى المستوى دائما المطلوب منا ان نواكب المتطلبات العصرية.
وما يتطلبه العصر لتحقيق ذلك يبدأ بالمعرفة، لكن أية معرفة؟
وجهدا غير عادي، يبدأ بالحفاظ على قطرة الماء، وعلى التربة التي يمكنها أن تخرج من بين لدناتها نبتة صالحة تطعم أبناء الحاضر وتبقى غرسا للمستقبل، وليس انتهاء بالعمل، وبين المسافتين أياد مؤهلة واعية بما عليها من مسؤولية وأدوار تجعل من الوطن أكثر بهاء، ومن البلاد أرحب مكانة.
كان الحديث أبويا بلا شك، نحتاج فقط الى قليل من الاستيعاب لندرك كم كان الحديث أجندة عمل تحتاجها عمان وهي تقترب من الأربعين في نهضتها الحديثة، حيث سن النضج، وحيث التحديات واسعة.
نحتاج الى ثقافة ومعرفة، المزارع يدرك عبرهما الجريمة التي يرتكبها في حق بلاده وهو يرضى ببضعة ريالات يعطيها اياه شخص لا يهمه الماء أو الأرض، بل الحصاد السريع.. والموظف والمثقف وغيرهما كل فرد في المجتمع كيف يمكن العبور نحو الغد بحاضر قوي، لا تخيفنا السماوات المفتوحة لأن لدينا قوة في المكان ورسوخا، كراسيات سمائل.
التعليقات