الجمعة 9 فبراير 2007

محمد السماك

في عام 1969 قام إسرائيلي مهاجر من أستراليا بإحراق المسجد الأقصى في القدس. أتى الحريق على مساحة واسعة من الحرم. ومن المعالم التي أكلتها النيران منبر صلاح الدين الأيوبي. لم يكن المهاجر الأسترالي إسرائيلياً ولا يهودياً. بل كان مسيحياً صهيونياً. والحركة المسيحية الصهيونية انطلقت من الولايات المتحدة حيث إن اتباعها حسب ادعاءات الحركة حوالي سبعين مليوناً من أبرزهم القساوسة جيري فولويل، وبات روبرتسون، وجيمي سواغرت، وفرانكلين غراهام، وغيرهم كثير. إن لهؤلاء القساوسة محطات تلفزة وإذاعة تعمل 24 على 24 ساعة. كما أنهم يديرون جامعات ومستشفيات ومؤسسات اجتماعية في طول الولايات المتحدة وعرضها. وقد انتشرت هذه الحركة في عدة دول أخرى منها أستراليا، التي جاء منها quot;بطلquot; جريمة إحراق المسجد الأقصى. وتؤمن هذه الحركة بالعودة الثانية للمسيح. كما تؤمن بأن لهذه العودة شروطاً لابد من العمل على تحقيقها. ذلك أن إرادة الله في ثقافة وفي إيمان هذه الحركة لا يحققها الله وحده، ولكن يحققها أيضاً المؤمنون به والذين يعرفون تماماً ماذا يريد الله منهم أن يفعلوا! حسب زعمهم. وبما أن المسيح لا يعود إلا إذا أقيم الهيكل، فلابد إذن من إقامته. وفي اعتقادهم أن المسجد الأقصى يقوم على أنقاض الهيكل الذي دمره الرومان. ولذلك يعملون على تدمير المسجد بأي وسيلة لإعادة بناء الهيكل في موقعه. ومن أجل ذلك كان الحريق. وفي حسابات هذه الحركة المسيحية الصهيونية أيضاً أن تدمير المسجد سواء بالنار، أو بالقصف الجوي، أو بواسطة الديناميت (وكلها محاولات جرت فعلياً في العقود الثلاثة الماضية)، لابد أن يؤدي إلى انفجار حرب تتسع لتتحول إلى حرب عالمية. وهذا هو المطلوب. ذلك أنه في ثقافة الحركة أن المسيح عندما يعود ثانية سيظهر فوق سماء معركة كبرى تسيل فيها الدماء حتى ترتفع إلى quot;ألجمة الخيلquot;. وأن وقائع المعركة تبدأ في سهل مجيدو (وهو سهل يمتد من القدس إلى عسقلان على البحر المتوسط) ولذلك يطلقون على المعركة اسم quot;هرمجدونquot;. وتوظف هذه الحركة الأحداث السياسية- العسكرية في سيناريو عودة المسيح، وهي تعتبر أن النبوءات المتعلقة بالعودة تتحقق الواحدة بعد الأخرى. أولاً قيام إسرائيل في عام 1948، ثم احتلال إسرائيل للقدس في عام 1967 بعد تغلبها على جيوش الدول العربية(؟). أما النبوءة الثالثة التي تتوجّ هذا السيناريو فهي تهديم المسجد الأقصى وبناء الهيكل.
هناك جماعات يهودية تتطلع لبناء الهيكل ولكنها لا تربط هذا المشروع بالعودة الثانية للمسيح. بل إنها كما يقول حاخاماتها، quot;لم تؤمن بمجيء المسيح لأول مرة، فكيف تستعد لاستقباله ثانية؟quot;. مع ذلك فإن ثمة هدفاً مشتركاً بين اليهودية- الصهيونية والمسيحية- الصهيونية. فالحركتان تعملان على قيام صهيون. ذلك أن صهيون بالنسبة لليهود هي هدف نهائي بحد ذاته. أما صهيون بالنسبة للمسيحية الصهيونية فهي مجرد أداة لابد منها من أجل تحقيق شروط العودة الثانية، وكلما تأخر تحقيق هذا الشرط كلما تأخرت العودة. وكلما تأخرت العودة جراء الإهمال أو التقصير يزداد غضب الله (ومن معالم غضب الله وقوع أحداث 11/9/2001 في نيويورك وواشنطن. ووقوع إعصار كاترينا). ومن أجل تجنّب غضب الله والتعجيل في العودة الثانية للمسيح كان التحريض على غزو العراق. فالأميركيون المعارضون اليوم لاستمرار احتلال العراق ليس منهم أتباع الحركة المسيحية الصهيونية. بل إن هؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من مؤيدي سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش في العراق والتي انحدرت نسبة مؤديها عموماً إلى 38 في المئة فقط من الرأي العام الأميركي. وفيما تعمل الآن مؤسسة quot;السفارة المسيحية الدولية من أجل القدسquot; من خلال quot;قناصلهاquot; (وهو الاسم الذي يحمله رؤساء المكاتب التابعة للمؤسسة في الولايات الأميركية وفي عدد من دول العالم) على الترويج لثقافة العودة الثانية للمسيح ولشروط هذه العودة وللواجب الديني بالعمل على تحقيق هذه الشروط، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ماذا يفعل العالم الإسلامي؟ وماذا يفعل العالم المسيحي الذي يسفِّه ثقافة ولاهوت الحركة الصهيونية - المسيحية؟
بالنسبة للعالم الإسلامي، كان إحراق المسجد الأقصى الدافع وراء القمة الإسلامية الأولى التي عُقدت في المغرب في عام 1969. وقد انبثقت عن هذه القمة فيما بعد عن منظمة المؤتمر الإسلامي. وقد أقرّت هذه المنظمة في مؤتمر عُقد على مستوى القمة في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية في عام 1987 وضع استراتيجية إسلامية مشتركة لتحرير القدس، وعهدت إلى ملك المغرب السابق الحسن الثاني ترؤس اللجنة المكلفة بوضع هذه الاستراتيجية. إلا أن العاهل المغربي انتقل إلى رحمة ربه ولم تخرج هذه الاستراتيجية إلى الوجود. كل ما ظهر منها حتى تاريخ اليوم هو إعادة بناء منبر صلاح الدين الأيوبي وإعادته إلى موقعه في المسجد الأقصى! إن إعادة المنبر إلى المسجد عمل رمزي مهم. ولكنه لا يعني استعادة المسجد ولا استعادة القدس. فما كان للمنبر أن يعود بعد ترميمه -أو إعادة صناعته- لو لم توافق على ذلك إسرائيل. ففي الوقت الذي كانت السعادة تغمر القلوب بعودة المنبر إلى المسجد الحرام، كانت الجرافات الإسرائيلية تواصل الحفر تحت الحرم وحوله، الأمر الذي أدى إلى تصدع العديد من جدرانه. ورغم اعتراض عرب القدس على هذه الحفريات، فإن إسرائيل تمضي قدماً في مشروعها خاصة باتجاه بوابة الحي المغربي الذي دُمّر عن آخره في عام 1967. وفي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل بناء الجدار العنصري الفاصل، فإن القدس تزداد اختناقاً، وفي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل منع المسلمين من البلدات والقرى الفلسطينية المجاورة من القدوم إلى القدس لأداء الصلاة في المسجد، تواصل مصادرة الأراضي العربية وتوسيع المستوطنات اليهودية (ومن أبرزها مستوطنة quot;ياميتquot; التي تشكل مع القدس الغربية حزاماً خانقاً للقدس القديمة). ولقد أقامت إسرائيل سبعين بؤرة استيطانية يهودية في القدس القديمة ووطّنت فيها اليهود المهاجرين من دول العالم المختلفة، وخاصة من الولايات المتحدة، حتى بلغ عددهم ما يزيد على ثلثي سكانها من العرب المسلمين والمسيحيين.
هنا لابد من العودة إلى مؤسسة quot;السفارة المسيحية الدولية من أجل القدسquot;. فهذه المؤسسة تعمل على جمع الأموال لشراء العقارات العربية بالإغراء وحتى بالإغراق المالي. ومن ذلك شراء عقارات كانت تابعة للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، الأمر الذي أدى إلى احتجاج ومعارضة الأرثوذكس العرب، فاضطرت الكنيسة إلى طرد رئيس الأساقفة السابق quot;إيريانيوسquot; من موقعه في عام 2005 كردّ فعل على جريمته الدينية والوطنية تلك. فلماذا لا يؤسس وقف إسلامي لشراء العقارات في القدس يحافظ على ممتلكاتها وبالتالي على هويتها؟ ماذا يمنع دول العالم الإسلامي من تمويل صندوق هذا الوقف؟ ماذا يمنع فرض ضريبة دولار واحد على كل مسلم في العالم لتمويل هذا الصندوق، علماً بأن عدد المسلمين في العالم يبلغ مليار و300 مليون نسمة؟ فإذا دفع كل مسلم دولاراً واحداً في الشهر، وإذا دفعت كل دولة مليوناً أو أكثر في العام، فإن العالم الإسلامي يصبح قادراً ليس فقط على المحافظة على ما تبقى من القدس، بل ربما يصبح قادراً أيضاً -بالمال وليس بالسلاح- على استرجاع الكثير مما ضاع منها حتى الآن؟ لقد عاد منبر صلاح الدين الأيوبي إلى المسجد الأقصى بعد 27 عاماً من جريمة الاعتداء عليه.. ولكن متى تعود القدس نفسها عاصمة لدولة فلسطين؟