د. رضوان السيد

اتفاقُ مكة بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، الذي أفضى إلى حلّ مسألة حكومة الوحدة الفلسطينية العالقة منذ ثمانية أشهر، نموذج للرؤية الجديدة للقيادة السعودية للقضايا العربية. في حرب تموز الماضي بلبنان تقدمت المملكة العربية السعودية الصفوف في احتضان لبنان بكامله، والقيام بمبادرات سياسية واقتصادية من أجل إخراج البلاد من المأزق خلال الحرب وبعدها وصولاً إلى مؤتمر quot;باريس-3quot;. وقتها شاعت على ألسنة وأقلام المعلِّقين والكتّاب -ومن بينهم كاتب هذا المقال- الأطروحة القائلة إن المملكة تنهض وتستجمع القوى لاستعادة الملفات العربية التي استلبتها جهاتٌ إقليمية ودولية. ولهذه الأطروحة مؤيِّداتُها من الواقع القائم الآن بل ومنذ سنوات، فقد تحولت بلدانٌ عربيةٌ عدّة بالمشرق إلى ساحات صراع للمصالح والقوى عبر السنوات الماضية، بحيث جرى تدمير تلك الدول والبلدان والوحدات أو الإضرار بها إضراراً كبيراً.

بيد أنّ هذا الفهم ليس كافياً لفهم خطوات المملكة التي تحولت إلى سياسات، ذلك أن الملفات المطروحة في فلسطين والعراق ولبنان ما وُجدت، أو جرى استلابها والاستيلاء عليها في السنوات الماضية فقط، بل هي موجودة ومشتعلة على تفاوت في الشدة منذ عقود. قضية فلسطين موجودة منذ عام 1948، والمسألة العراقية منذ مطالع التسعينيات من القرن الماضي بعد غزو صدام حسين للكويت وفرض الحصار الدولي عليه، والمسألة اللبنانية موجودة في مرحلتها الأخيرة منذ مطلع التسعينيات أيضاً حين برز العجز عن تنفيذ اتفاق الطائف، كما جرى استبدال الوصاية السورية به وعليه.

إنّ ما أريد الوصول إليه، أنّ ما نشهده من أحداث ووقائع تقودها المملكة منذ أواخر عام 2005، إنما تعني بروز قيادة عربيةٍ جديدةٍ غابت منذ غياب الرئيس جمال عبدالناصر عام 1970، إذ بعد غياب القيادة المصرية غابت السياسات العربية الجامعة، في التصدي للمشكلات، وفي اصطناع البدائل واجتراح الخيارات. تصارعت على قيادة المشرق العربي الأطراف السورية والعراقية، وحاولت المملكة العربية السعودية أن تتلافى الكوارث، كوارث الانقسام بقدر الإمكان. لكن لم تعد هناك سياسات جامعة أو شاملة لغياب القيادة الشاملة والجامعة، فحتى قضية فلسطين ما عادت أولوية، ولا عاد التضامن العربي، والتواصل بين المشرق والمغرب تنسيقاً وتصدياً أمراً متحققاً، وبخاصة أن مصر ما أمكن إعادتها للجامعة العربية حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

لقد كان أمراً شديد الدلالة، إقبال الملك عبدالله بن عبدالعزيز على الدعوة لمؤتمر قمة إسلامية استثنائي بمكة المكرمة عقب توليه السلطة بالمملكة، وقد قال في كلمته بالمؤتمر إن المسلمين يحتاجون إلى تضامن وتنسيق، ويحتاجون إلى سياسات لابد أن يبدأ العمل عليها. وعندما امتدح أحد الحاضرين سياسات المملكة الرامية دائماً لإطفاء النيران، سارع الملك عبدالله للتعليق فيما أذكر بالقول: إن المطلوب ليس إطفاء النيران، بل منعُ اشتعالها أصلاً.

ولذلك فالذي نشهده عبر مؤتمر مكة الأول لتحريم سفك الدم بالعراق، وعبر مؤتمر مكة الثاني لصنع سلام فلسطيني داخلي، وعبر المبادرة بلبنان للإخراج من المأزق، كل ذلك يشير إلى تصدي المملكة لتسنُّم القيادة العربية، والقيادة هي التي ترسم السياسات، وتجمع الكلمة من حولها. في عام 2006 ذهب الملك عبدالله أو أرسل مبعوثيه إلى تركيا وباكستان والهند وإيران وروسيا وأميركا وبلدان الاتحاد الأوروبي، وفي العام نفسه جدّد طرح رؤيته ومبادرته للسلام التي أقرّتها القمة العربية في بيروت عام 2002، وفي العام الماضي أيضاً أطلق مبادراته المعروفة تجاه فلسطين والعراق ولبنان. ويعني هذا أن القيادة المسؤولة تمتلك رؤية مستندة إلى استقراءٍ للواقع والمحيط، وتطوير سياساتٍ على أساس هذا الفهم وهذه المسؤولية. وفي هذا السياق تأتي دعوة الملك عبدالله لمؤتمر قمةٍ عربيةٍ يُعقد في المملكة في الأسبوع الأخير من شهر مارس المقبل.

إنّ المفهوم أن مؤتمر القمة العربي بالمملكة سيكون أمامه موضوعان أساسيان: المشكلة العراقية، والمبادرة العربية للسلام. والمفهوم أيضاً أنّ ذينك الموضوعين سيكتسبان أولوية لأنه تحقق ويتحقق قبل القمة أمران اثنان أيضاً: يعود الوضع الفلسطيني إلى مساره الواحد والصحيح، ويستقرُّ الوضع في لبنان الخارج -بفضل مبادرات المملكة واتصالاتها- من مأزقٍ صعب. وهذه الإنجازات ما تحققت إلا لحدوث أمور يأخذ بعضها برقاب بعض: فشل الولايات المتحدة الأميركية في ممارسات الهيمنة والتفرد بالمقاومة العربية في العراق وفلسطين، وإدراك الروس والأوروبيين والإيرانيين والأتراك -وإن من مواقع مختلفة- أن المنطقة العربية لا يمكن استضعافُها أو تجاهُلها ما دام أهلها مصرِّين على الوجود والحياة والكرامة وصون المصالح. وهكذا استجابت المملكة -مدفوعة بالغليان الشعبي العربي، وبالخراب العربي- لهموم القيادة واهتماماتها ومسؤولياتها، وطرحت بدائل للسياسات الإقليمية والدولية التي أُريد فرضُها واتخذت صيغتين: صيغة الاحتلال والفتح، وصيغة المحاصرة والعزل. لقد ضرب الأميركيون في أفغانستان وفي العراق، وحاصروا في الوقت نفسه كل دول المشرق بحجة فشلها في مكافحة الإرهاب، وبحجة إرادة نشر الديمقراطية فيها. وانتهى الأمر بعد خمس سنوات من التعسُّف والعسف -وكما سبق القول- إلى فشل ذريع. وعندما أرادت إيران الإفادة من هذا الفشل، نشب نزاعٌ متطاولٌ بينها وبين الولايات المتحدة، سرعان ما أدركت إيران فيه أنه من العبث العمل على الأرض العربية بطريقة الولايات المتحدة نفسها.

إنّ المملكة العربية السعودية لا تستعيد ملفاتٍ ومشكلاتٍ استلبها أو سيطر عليها آخرون دوليون أو إقليميون، بل هي تقول للعرب أولاً، إن المشكلات هي مشكلاتهم هم وعليهم أن يحلّوها بأنفسهم، لا أن يتقاتلوا لتزداد المشكلات صعوبة أو تتحول إلى كوارث. وها هي قد تقدمت فحددت المشكلات، ولفتت إلى اتجاهات وآفاق حلِّها أو التصدي لها. ثم إنها لم تكتفِ بالنصح وفتح الأفق، بل مضت باتجاه تحمل المسؤولية، دونما حزازاتٍ أو فئويات أو حزبيات. وهذا شأن القيادة التاريخية، التي افتقدناها طوال عقود، والتي صار وجودها ومسارها مسألة حياة أو موتٍ بالنسبة للعرب أجمعين.

وما انتهت الصعوبات والمشكلات ببروز القيادة العربية الجديدة، وبالسياسات التي طورتها وتطوّرها، فقد استمعتُ إلى تعليقات تقول، إن إسرائيل وأميركا لن تقبلا هذا الأمر أو ذاك، لكن هذا بالذات هو معنى القيادة، ومعنى السياسات تجاه المشكلات، فقد مضى علينا زمان تقدمت خلاله التناقضات الجزئية في الوعي والواقع على الصراع مع إسرائيل، ونُسي هدف إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة. ظهر من يقول إن القضاء على quot;فتحquot; أو quot;حماسquot; هو الإنقاذ للشعب الفلسطيني، وظهر من يقول، إن جوهر الصراع هو على السُّنة أو الشيعة، وظهر أخيراً، من يقول، إن المشكلة هي بين العرب وإيران، وليس على استمرار العراق أو لبنان. وتأتي القيادة العربية لتقول: بل المطلوب والضروري والذي نستطيع القيام به نحن دون غيرنا: الاعتصام بالأوطان، والاعتصام بالإنسان، وفي العراق وفلسطين ولبنان.

لقد ظهر العربُ في السنوات الأخيرة على المسرح الإقليمي والدولي باعتبارهم مشكلة لأنفسهم وعلى غيرهم، وها هم يحضرون اليوم باعتبار البلاد بلادهم، والمنطقة منطقتهم، والملفات ملفاتهم، وهم قادرون على إمساك زمام أمورهم بأيديهم، والإسهام في سلام العالم وأمنه وتقدمه.

تنطلق التنمية من الخليج لتعيد تشكيل الحاضر والمستقبل، وتهب القيادة السعودية لاستنقاذ المشرق والخليج بالرؤية الواضحة، والعمل الجادّ. فالأمر كما قال رسول الله صلواتُ الله وسلامُه عليه يوم فتح مكة: هذا يومٌ له ما بعده!