خيرالله خيرالله ـ الغد الأردنية
من اغتال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط - فبراير 2005؟
لم يعد هناك مجال لأي شك فيمن يقف بطريقة أو بأخرى وراء تلك الجريمة بعدما كشف النظام السوري أنّه لا يستطيع حتى السماع بشيء اسمه المحكمة ذات الطابع الدولي المكّلفة بالنظر في الجريمة. تلك مهمة هذا النظام الذي يصف نفسه بـ quot;نظام الممانعةquot;، في حين أنّه لم يعمل سوى على تغطية الجرائم التي ذهب ضحيّتها كلّ الذين قاوموا إسرائيل حقيقة، وليس بالكلام بدءاً بكمال جنبلاط وانتهاء ببيار أمين الجميّل مروراً بالمفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح وبمحمّد شقير وناظم القادري ورياض طه والعشرات الذين وقفوا في وجه الهيمنة الإسرائيلية على لبنان وفي وجه الطائفية والمذهبية.
في طبيعة الحال ليس في الإمكان إلاّ استعادة ذكرى الشهداء الآخرين الذين ذهبوا ضحية مقاومتهم لإسرائيل بطريقة حضارية وليس بالطريقة التي تصبّ في مصلحتها، أي بشنّ حروب تنتهي بهزيمة للبنان وبتشريد آلاف اللبنانيين وتهجيرهم على غرار حروب quot;حزب اللهquot; وآخرها حربه على بيروت وأهلها. يأتي على رأس هؤلاء الشرفاء حقّاً سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني الذين دفعوا ثمناً كبيراً لوقوفهم في وجه إسرائيل قبل أن تغتالهم أيدٍ خبيثة.
بعد سنتين على اغتيال رفيق الحريري، يتبيّن أنّ المستهدف لم يكن شخص الرجل، بل كان لبنان. كان مطلوباً القضاء على لبنان، على فكرة اسمها لبنان ترسّخت في ذهن رفيق الحريري وفي ذهن كل لبناني يسعى إلى خدمة بلده وخدمة العروبة الصادقة ذات الطابع الحضاري المتّسم بالتسامح واتّساع الأفق وليس تلك العروبة، التي تتاجر بالعروبة، المنغلقة على نفسها التي تعمل من أجل خلق مجتمع مختلف عن المجتمع اللبناني داخل لبنان، وإلى خلق دولة مسلّحة داخل الدولة في لبنان، دولة لا علاقة لها بدولة لبنان، دولة تشتري بالمال والسلاح من يروّج لها ولمشروعها الهادف إلى القضاء على دولة لبنان وتكريسه quot;ساحةquot; للمحور الإيراني- السوري.
في الذكرى الثانية لاستشهاد رفيق الحريري، لا يستطيع من عرف الرجل عن كثب سوى أن يتذكّر كم كان لبنانيا وعربيّاًً، كم كان مسكوناً بهاجس لبنان، كم كان غير طائفي، كم كان لكلّ لبنان ولكلّ اللبنانيين. لو لم يكن رفيق الحريري لكلّ لبنان، لما آمن بفكرة تعليم اللبنانيين.
علّم رفيق الحريري ما يزيد على خمسة وثلاثين ألف طالب لبناني في أفضل جامعات العالم، علّمهم ثقافة الحياة وليس ثقافة الموت. كان الذين علّمهم رفيق الحريري من كل الطوائف والمذاهب والمناطق، لم يفرّق بين لبناني ولبناني، دعم كلّ الجامعات العاملة في لبنان من أجل دعم العلم، دعم في البداية الجامعة اللبنانية ودعم الجامعة التي دخلها وهي الجامعة العربية، ودعم، من منطلق المبادئ التي آمن بها كقومي عربي، الجامعة التي لم يدخلها شاباً وهي الجامعة الأميركية لعلمه التام بأهميّة الدور الذي لعبته على الصعيد الإقليمي في تخريج أجيال من المثقّفين في المنطقة العربية كلّها. لعبت الجامعة الأميركية في بيروت، منذ تأسست في القرن التاسع عشر، دوراً يتجاوز المنطقة العربية، إلى إيران وافغانستان وأثيوبيا، حصل ذلك، في تلك الأيّام التي كان لبنان يصدّر فيها العلم والحرّية والوطنية ولا شيء غير العلم والحرّية والوطنية، والحضارة طبعاً.
عمل رفيق الحريري أيضاً على المحافظة على الجامعة الأميركية في بيروت، كي لا تذهب في اتجاه آخر، أي إلى إسرائيل كما كان يشاء أولئك الذين عملوا كلّ ما يستطيعون عمله كي لا تكون في لبنان جامعة وطنية أو أجنبية ذات علاقة بالعلم والمعرفة والحضارة؟
دفع رفيق الحريري ثمن أشياء كثيرة من أجل لبنان ومن أجل كلّ ما هو حضاري في لبنان. دفع ثمن محافظته على المؤسسات اللبنانية في طليعتها مؤسسة الجيش اللبناني. حافظ على مؤسسة الجيش اللبناني في وقت كان الجيش يتفكّك بسبب سطوة الميليشيات الطائفية والمذهبية، لم يكتف بذلك، ساهم في التوصّل إلى اتفاق الطائف الذي أسس للبنان الحديث، هذا الاتفاق الذي استطاع النظام السوري تنفيذه على طريقته بعد اغتيال من كان الرئيس الحقيقي لمرحلة ما بعد الطائف الشهيد رينيه معوّض الذي حال ميشال عون دون دخوله قصر بعبدا رئيساً بما سهّل اغتياله في بيروت الغربية في تشرين الثاني من العام 1989، في مكان معروف جيّداً من يستطيع أن يغتال فيه.
لكن يبقى، أن الثمن الأكبر الذي دفعه رفيق الحريري، هو ثمن المحافظة على بيروت بكل ما تعنيه المدينة من معنى. حافظ على quot;النهارquot;، حافظ على كلّ حجر في بيروت، على الجامعات، على المسرح quot;مسرح بيروتquot;، حافظ على المدينة. أعاد الحريري الحياة إلى المدينة. أعاد إلى بيروت قلبها. أعاد بناء وسط بيروت. أعاد بناء المكان الذي يلتقي فيه جميع اللبنانيين، الذي يلتقي فيه ابن الشمال مع ابن الجنوب، ابن الجبل مع ابن البقاع، المسيحي مع المسلم، الشيعي مع السني، المسيحي مع الدرزي، الغنيّ مع الفقير ومع المتوسط الحال. أعاد بناء ما يمكن أن يكون حجر الزاوية في إعادة بناء لبنان.
أعاد الحريري بناء ما لم يكن يستطيع أحد غيره بناءه، وذلك ليس من أجل لبنان وحده، بل من أجل كلّ العرب أيضاً. أعاد الاشعاع إلى لبنان، ولذلك اغتالوه لمعرفتهم أن لبنان خطر عليهم وأن بيروت خطر حضاري يجب أن يوضع حدّ لها.
الآن بدأنا نفهم لماذا اغتالوا رفيق الحريري والخطورة التي كان يمثّلها الرجل. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان ذلك الاصرار لدى quot;حزب اللهquot;، الحليف الأوّل للنظام السوري، على إقامة مخيّم البؤس في وسط بيروت بغية الانتقام من رفيق الحريري والقضاء على مشروع إعادة الحياة إلى لبنان.
لا داعي للبحث عن تفسيرات لما أقدم عليه الحزب وحلفاؤه فالهدف واضح كل الوضوح يتلخّص باستكمال ما هو مترتّب على اغتيال رفيق الحريري من تدمير للبنان وبيروت بما يصبّ في خدمة الحرب الإسرائيلية على لبنان التي افتعلها quot;حزب اللهquot; في الصيف الماضي.
الجريمة واضحة وأبطالها معروفون. أبطالها الصغار والكبار، كلّهم معروفون. إنّهم الذين يتهرّبون من المحكمة ذات الطابع الدولي. أولئك الذين هربوا من الحكومة خوفاً من المحكمة.. أولئك الذين لا يستطيعون حتّى سماع اسمها! المحكمة لاحقتهم . المحكمة قامت. المحكمة واقع. المحكمة تعني العدالة التي يتهرّبون منها. المحكمة صارت فوقهم.
المحكمة هي صوت رفيق الحريري يقول لهم من عليائه: إنّ الدم ينتصر على السيف، ينتصر على الذين اعتقدوا أن بقتل رفيق الحريري يقتلون لبنان! لبنان باقٍ. رفيق الحريري باقٍ في كلّ لبناني شريف.
كاتب لبناني
التعليقات