الأربعاء 14 فبراير 2007


د. عبدالإله بلقزيز

ثبت بقوة الأشياء والوقائع ان الذين قرروا اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قبل عامين، كانوا يعرفون جيداً أنهم اختاروا توجيه الضربة الاستراتيجية للكيان اللبناني وللتوازنات التي رست عليها الحياة السياسية فيه منذ انتهت الحرب الداخلية. لا شيء كان يمكنه ان يقلب الأمور في لبنان، سافلها على عاليها، وأن يطيح بالمحصلات، ويعيد النظر في العلاقات والاتجاهات والخيارات، غير جريمة سياسية بحجم تلك التي أودت بحياة شخصية وطنية من طراز الرئيس الحريري.

تقاس الأمور بنتائجها كما يقال؛ وحين نقيس الجريمة بما نجم عنها من مترتبات وتبعات، ندرك حينها كم كان القاتل عليماً بهول وفظاعة ما سيفضي إليه فعل من قبيل اغتيال الرئيس الحريري. نعم، كان عنوان الجريمة اغتيال رجل، ولكن تأكد ان وراء هذا الهدف المباشر هدف أبعد مدى من ذلك: اغتيال وطن. بهذا المعنى أتت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري تمثل جريمة في حق لبنان واللبنانيين جميعاً. وهي كانت كذلك بمعنيين:

1 بمعنى أنها غيبت رجلاً كان للبنانيين جميعاً: من كانوا من أنصاره وجمهوره منهم، ومن كانوا في جملة حلفائه، ومن كانوا في عداد خصومه السياسيين المختلفين معه في الرأي وفي السياسات. رزئ هؤلاء جميعاً في رجل عرف باعتداله السياسي وانفتاحه على الجميع، وبحرصه الشديد على الوحدة الوطنية، وجده وكده في معركة الإعمار بعد الحرب، فأتى تغييبه من خلال الجريمة النكراء يمثل هذا المعنى خسارة وطنية فادحة للبنان كله.

2 وبمعنى أنها جريمة أدخلت البلد في دوامة من الأزمات السياسية الداخلية تهدد بإطاحة البقية الباقية من عناصر التماسك فيه، ووضعت استقراره السياسي وسلمه الأهلي أمام امتحان لا سابق له في العسر منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، وفتحت طريقاً سالكاً نحو اختراقه سياسياً وأمنياً من الخارج.

لبنان ما قبل 14 شباط/ فبراير 2005 غير لبنان ما بعد هذا التاريخ المشؤوم. خلال العامين المنصرمين، فَقَدَ لبنان الكثير من مناعته الوطنية وتوازنه الاقتصادي وثروته البشرية وأمنه الكياني. هزه انشقاق داخلي بالغ التصديع لاجتماع وطني كان هشاً باستمرار وحساساً لأبسط متغير يدخل في نسيجه، لكنه أتى هذه المرة تصديعاً يخشى عسر رأبه. واستبيح أمنه الوطني بغزوة (جوية) ldquo;إسرائيليةrdquo; أزهقت أرواح مئات اللبنانيين وشردت ما يزيد على ربع السكان من ديارهم وأعملت هدماً وتدميراً في كل ما بناه رفيق الحريري لسنوات. ورزئ في قسم من أفضل رجالات السياسة والصحافة فيه برصاص غادر كان يصوب على وطن وعلى أمن واستقرار. ثم ما لبث التنازع السياسي فيه ان ركب مركب التجييش والتحشيد بمفردات الملل والنحل وما دونها من عصبيات ليأخذ الشارع الى مواجهات حمّالة ممكنات.. ومستحيلات.

ليس يعرف حتى الآن من هو قاتل الشهيد رفيق الحريري بالاسم، فالتحقيق الجنائي لم يقفل بعد، لكنه قابل للتعريف ولو من باب تقريبي من أفعاله (وهذا شأن ممكن في باب التحقيق السياسي) لأن الفعل يدل على الفاعل (على مثال قول ابن رشد ان الصنعة تدل على الصانع في معرض بيانه الصلة بين الله والعالم). ذلك أن أحداً لا يمكنه أن يجد مصلحة في اغتيال الرئيس الحريري إلا إذا وجد مصلحة في النتائج السياسية المترتبة على ذلك الاغتيال من نوع هذه التي يشهدها لبنان منذ عامين وأخطرها الانقسام الداخلي. والقاتل يعرف ان لبنان يكون ضعيفاً كلما انقسم، فيفيء قسم من بنيه (= من سياسييه) الى قوة خارجية تحميه من قسم آخر يحالف قوة (خارجية) أخرى غيرها. وهو قطعاً يعرف أن نفوذه في هذا البلد إنما يتعاظم أمره كلما اتسع الخرق في النسيج الداخلي وارتفع في الناس والنفوس منسوب الهواجس من أفق لا تتبين له ملامح، وهل حصل في لبنان غير هذا؟ وهل تحصل للقاتل غير ما أراد؟

الحقيقة الوحيدة التي لا يزيغ عن محجتها البيضاء إلا هالك أن لا مصلحة لأحد من اللبنانيين في هذه الجريمة النكراء التي أودت بحياة الرئيس الراحل رفيق الحريري، وأن الوبال كل الوبال على لبنان من وراء تلك الجريمة وبسببها. من هذه النقطة ومن هذه القناعة بالذات ينبغي أن يبدأ اللبنانيون التفكير في المسائل الخلافية التي تمزقهم وتوزعهم الى فريقين متنابذين: المحكمة الدولية، الشراكة في القرار وفي إدارة السلطة، السياسة الدفاعية، وأشياء أخرى.

وحين لا يكون لأحد منهم مصلحة في تلك الجريمة الشنعاء، فينبغي ألا يكون لديه إذن مصلحة في الايحاء بأن ثمة انقساماً لبنانياً حيال مسائل كانت في عداد الثوابت والبديهيات عند رفيق الحريري. حين نتذكر ان حقبة الشهيد رفيق الحريري في السياسة والسلطة أتت محمولة على عناوين سياسية ثلاثة هي الوحدة الوطنية والشراكة في الحكم وإعادة الإعمار، نقول ان الوفاء لرجل هذه الحقبة لا يكون إلا باستئناف الخيارات السياسية التي كرستها تلك العناوين والمبادئ.