الخميس 15 فبراير 2007

السيد يسين

أصبحت المطالبة بالديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان هي شعارات العصر الذي نحيا فيه. والمرحلة التاريخية الراهنة التي تعيشها الإنسانية شكلت ملامحها وقسماتها أمور متعددة. ولعل أول العوامل التي أثرت على طبيعة المرحلة هي الخبرة التاريخية للممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تمت في القرن العشرين. وهذه الممارسات سواء في جوانبها الإيجابية أو السلبية أصبحت تشكل quot;بيت خبرةquot; للإنسانية، حافل بالدروس والعبر.

ولعل أبرز ملمح للممارسات السياسية في القرن العشرين هو الصراعات الإيديولوجية التي لا حدود لعنفها والتي دارت بين القوى العظمى. ومن أبرز هذه الصراعات جميعاً الصراع بين الشيوعية والرأسمالية. ويمكن القول إن ثورة أكتوبر التي قامت عام 1917 في روسيا، والتي بشرت بعصر شيوعي سيحقق العدل في العالم قد قلبت الموازين العالمية، لأنها مثلت تحدياً أساسياً للرأسمالية التي تتبناها القوى الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

غير أنه قبل أن تتفرغ الساحة العالمية لهذا الصراع الرئيسي الذي طبع القرن العشرين بطابعه، قامت صراعات أخرى خطيرة بين كل من النازية والفاشية والروح العسكرية اليابانية والديمقراطية والليبرالية، وهذه الإيديولوجيات الخطيرة كانت مضادة للتقدم الإنساني لأنها قامت على أساس نزعات عنصرية بدائية، وزخرت أدبياتها بتمجيد الذات واحتقار الآخر. وليس ذلك فقط بل لقد اتسمت بنزعة عدوانية لإبادة الآخر ومحوه من الوجود.

لذلك لم يكن غريباً على الدول الأوروبية أن تتحالف لمواجهة هذا الخطر المثلث النازي الفاشستي الياباني العسكري فيما أطلق عليه معسكر quot;الحلفاءquot; ضد معسكر ما أطلق عليه quot;دول المحورquot;. ولعل هذا هو الأصل التاريخي للاستخدام الأميركي الراهن لكلمة دول quot;محور الشرquot; التي تصف بها الولايات المتحدة الأميركية دولاً مثل كوريا الشمالية وإيران.

لقد انتصر الحلفاء الأوروبيون في الحرب العالمية الثانية على quot;دول المحورquot; انتصاراً مشهوداً، ولا ننسى في هذا المقام أن الاتحاد السوفييتي كان عنصراً أساسياً في هذا الانتصار لأنه بدخوله الحرب مع quot;الحلفاءquot; الأوروبيين كان عنصراً أساسياً من عناصر حسم الحرب لصالح quot;الحلفاءquot;. ولكن من مفارقات التاريخ أنه ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى بدأ الصراع بين الاتحاد السوفييتي ممثلاً للشيوعية العالمية وبين الولايات المتحدة الأميركية التي مثلت الرأسمالية التي تبناها ما أطلق عليها دول العالم الحُر.

انتهى هذا الصراع التاريخي حوالى عام 1989 حين سقط الاتحاد السوفييتي السابق وانهار المعسكر الاشتراكي. وكان ذلك في الواقع نهاية عصر الشمولية وبداية عصر الديمقراطية.

ولا نعني بذلك أن الديمقراطية لم تكن ممارسة معروفة قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكننا نشير إلى أن الفضاء السياسي العالمي أصبحت تهيمن عليه الديمقراطية بعد أن فقدت الشمولية مصداقيتها على المستوى النظري والتطبيقي. وربما يكون مما ساعد على أن تصبح الديمقراطية هي صيحة العصر بزوغ العولمة باعتبارها العملية التاريخية التي أخذت تشكل بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافة ملامح كل الدول في الوقف الراهن.

وللعولمة لو شئنا أن تطبق نظرة نقدية على تحولات المجتمع العالمي وجهان أساسيان. وجه إيجابي يتمثل في ملامحها الأساسية كعملية تهدف إلى تحقيق سرعة تدفق السلع ورؤوس الأموال والخدمات والأفكار والبشر بغير قيود أو حدود. ووجه سلبي يتمثل في كونها في الواقع مشروعاً للهيمنة الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، له جوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية.

وهناك إجماع بين الباحثين على أن العولمة بوجهها الإيجابي والذي يتمثل في الارتباط العضوي بين دول العالم بفضل الاعتماد المتبادل والثورة الاتصالية الكبرى وفي قلبها شبكة الإنترنت عملية غير قابلة للارتداد.

أما الوجه السلبي للعولمة والذي يتمثل في الهيمنة الإمبريالية فعملية قابلة للارتداد، ويشهد على ذلك الحركات المضادة للعولمة الرأسمالية المتوحشة والتي تمثلها الحركة العالمية التي يطلق عليها quot;ضد دافوسquot; لأن دافوس أصبحت هي رمز العولمة في الوقت الراهن.

إذا كان هذا هو الوضع العالمي الراهن فإنه يصبح السؤال عن مصير الديمقراطية في عصر الهيمنة.

والواقع أن الديمقراطية يمكن النظر إليها من زوايا متعددة. فهي أولاً تجربة تاريخية تتمثل في النظم السياسية التي مارستها بصور متعددة قبل عصر العولمة وبعده. وهي من ناحية أخرى تمثل ثقافة متكاملة، وهي أخيراً آلية مهمة لفض المنازعات السياسية والاقتصادية والثقافية.

والواقع أنه لو نظرنا للديمقراطية كتجربة سياسية لوجدنا أن ممارسات الدول الديمقراطية زاخرة بالدروس والعبر، فقد ثبت تاريخياً أنها أقدر النظم السياسية على إدارة حركة الصراع في المجتمع، والذي يدور عادة حول طريقة إدارة الاقتصاد القومي وعملية استثمار الموارد ونصيب المواطنين من الدخل القومي، وكل ذلك في إطار نظام سياسي يؤمن بالتعددية التي لا تقصى طائفة أو طبقة، وبتداول السلطة الذي يكفل التجديد السياسي الذي يحقق هدف الحيوية السياسية.

وبالمقارنة مع الشمولية باعتبارها نقيض الديمقراطية يتبين من خبرة القرن العشرين الفشل الذريع للشمولية في إدارة الاقتصاد القومي وإشباع الحاجات الأساسية للمواطنين وتحقيق الحريات السياسية.

غير أن الديمقراطية كنظام سياسي تواجه في عصر العولمة أو فلنقل في عصر الهيمنة تحديات كبرى، نظراً لتحول طبيعة الدولة ذاتها ككيان قانوني بتأثير موجات العولمة المتدفقة التي انتقصت من سيادة الدولة، وجعلتها تابعة لتأثير المؤسسات الدولية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهيمنة الشركات دولية النشاط.

غير أن الديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي، ولكنها قبل ذلك تمثل ثقافة كاملة لها منطلقاتها وقيمها التي هي أساس عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية في المجتمع. وهذه الثقافة تأثرت دون شك بالتيارات الثقافية العنيفة التي ولدتها العولمة.

وتبقى الديمقراطية أخيراً باعتبارها آلية أساسية لحل النزاعات في المجتمع، وحتى في هذا المجال تأثر هذا الدور الأساسي بصراعات العولمة المتعددة.

الديمقراطية كتجربة تاريخية وثقافية وآلية لحل النزاعات تحتاج إلى تأمل نقدي في ضوء صيرورتها في عصر العولمة.

وربما كانت التغيرات التي لابد أن تلحق بالديمقراطية كتجربة تاريخية وثقافة وآلية لفض المنازعات تزداد وتيرتها في عصور الانتقال. ومما لاشك فيه أن البشرية تمر في الوقت الراهن في مرحلة انتقال كبرى في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة.

في مجال السياسة هناك الانتقال من عصر الشمولية إلى عصر الديمقراطية الشاملة. وفي مجال الاقتصاد نجد الانتقال الحاسم من اقتصاديات التخطيط إلى الاقتصاد الحُر.

وفي ميدان الثقافة نجد النقلة الكبرى من آفاق الحداثة إلى مغامرات ما يطلق عليها حركة ما بعد الحداثة بكل ما تتضمنه من مبادئ ثورية أو فوضوية حسب الأحوال حول تعريف الحقيقة والتاريخ ودور الفرد وطبيعة المجتمع وأهداف التقدم.

وتلك كلها تطورات عظمى تحتاج إلى رؤية نقدية لسبر أغوارها ومنهج متكامل لدراسة كل أبعادها.