جهاد الزين

عند الناقورة في أقصى الجنوب الغربي من لبنان، وحيث تبدأ فلسطين التاريخية او إسرائيل الحالية، تنتهي آخر مناطق التواجد المشترك للمسلمين الشيعة والسنة الممتدة على مدى قارة آسيا، إذا أخذنا بالاعتبار تَواصُلَ خرائط الدول من لبنان مرورا بسوريا وتركيا واذربيجان والعراق وايران وافغانستان وباكستان والهند ثم من العراق الى شبه الجزيرة العربية حيث السعودية والكويت والبحرين والامارات العربية المتحدة واليمن. (بين مئة وثمانين الى مئتي مليون شيعة وفوق الاربعمئة مليون سُنّة).

عند الناقورة على البحر الابيض المتوسط تنتهي اذن آخر نقطة آسيوية للتواجد المشترك للجماعات السنية - الشيعية، ومعها ينتهي الانتشار الشيعي المحصور تاريخيا في قارة آسيا... لتبدأ من ساحل الجليل جنوبا الى مصر وكل شمال افريقيا العربي والسودان ثم كل القارة الافريقية (اقصد سكانها الاصليين) ثم الى الشرق الاقصى في اندونيسيا وماليزيا وتايلاند والفيليبين المناطق والدول المسلمة التي تنتمي شعوبها الى المذاهب السنية ولا تواجد للشيعة فيها (فوق الاربعمئة مليون سُنّة).

اذن في زمن استيقاظ الحساسية السنية - الشيعية في العالم المسلم فان الاطار الجغرافي - السياسي للتوترات المذهبية هذه حين تحصل هو الشرقان الاوسط والادنى والخليج وشبه القارة الهندية، فيما يبقى كل الشرق الاقصى وكل افريقيا العربية وغير العربية والبلقان خارج اي حساسية مباشرة من هذا النوع بحكم عدم وجود تواجد مشترك تقليدي.
هذا التوصيف الديموغرافي يعني نتيجة بديهية هي ان الدول المسلمة ذات التركيب المذهبي السني ستكون معرضة او هي معرضة لمشاكل لا علاقة لها بالحساسية السنية - الشيعية، بمعنى ان هذه الحساسية المذهبية مهما تحولت الى مستوى اساسي للصراع السياسي، فسوف تبقى محصورة في جزء من العالم المسلم ولن تكون بالتالي قادرة، حتى لو تواصلت ديناميات (bull;) توترها على التحول الى الموضوع الشامل في العالم المسلم.

هذا ايضا يعني ان quot;الجيل الثانيquot; من الحركات الاسلامية الاصولية الذي بدأ ينشغل في بعض الشرق الاوسط والادنى بالتقاتل المذهبي، وكان قد بدأ قبل ذلك في شبه القارة الهندية، سيواصل تفريغ شحنته الايديولوجية - السياسية في افريقيا والشرق الاقصى اساسا ضد الانظمة السياسية القائمة والتي وُلد هو اصلا في رحم العداء لها مثل مصر والجزائر، او - وهذه نقطة مهمة - ضد المجتمع نفسه مثلما حصل في الجزائر خلال التسعينات من القرن الماضي بعد اندلاع الصراع بين دولة جبهة التحرير وجيشها في الجزائر وبين جبهة الانقاذ الاسلامية وما تفرع عنها لاحقا من تنظيمات راديكالية مارست مستوى استثنائيا من العنف الاجتماعي (الذبح) ضد المواطنين لا قوى الامن... مع كل التحفظ الضروري هنا على تحديد المسؤوليات في العديد من الجرائم المشار اليها تبعا لسجال معروف بين المراقبين الجزائريين انفسهم حيال ما اعتبره بعضهم يومها جرائم اقترفتها فعلا الجماعات الاصولية المسلحة وجرائم quot;أُلصقتquot; بها للتحريض ضدها؟

واليوم في الجزائر يتجدد العنف الاصولي الاجتماعي، لكن على ما يبدو مع جيل ثان للحركة الاصولية اصبح بقيادة quot;تنظيم القاعدةquot;، كما اعلن مؤخرا، وهذا ايضا حسب مطلعين جزائريين يشكل انتقالا جديا الى مرحلة لم يعد فيها جيل quot;جبهة الانقاذquot; القيادي هو الذي يدير الصراع، بل فئة اكثر شبابا متأثرة بنموذج اسامة بن لادن.
ربما كان التحول نفسه حدث في مرحلة قريبة منصرمة في اندونيسيا، لكن في بلد مهم كمصر، ورغم الموجة الارهابية التي شهدتها على يد جماعات متطرفة بقي الجسم الرئيسي للحركة الاصولية تحت قيادة التنظيم التقليدي لـquot;الاخوان المسلمينquot; المنخرط في برنامج صراع سياسي من اجل الوصول الى الحكم او المشاركة فيه، بينما quot;الجيل البن لادنيquot; في اي بلد لا برامج سياسية له، بل يضع هدفا واحدا هو الصراع التدميري ضد نظام الحكم والولايات المتحدة الاميركية، او من يختار من اعداء موسميين بين حين وآخر. كذلك، ورغم خصوصية الوضع الفلسطيني، فان المعادلة المصرية نفسها تنطبق بمعنى ما على فلسطين، حيث يندلع الصراع ممثلا بـquot;حماسquot; ضد quot;الحزب الحاكمquot; وهو هنا quot;فتحquot; كصراع على السلطة، يندلع حيث لا اختلاط مذهبي سني - شيعي!

الاستخلاص الجوهري، هنا، هو ان الانظمة السياسية الحاكمة في دول ذات quot;صفاءquot; مذهبي لن تستطيع الاستفادة من تحويل العداء الاصولي ضدها نحو التقاتل المذهبي، وستظل لفترة غير قصيرة تحت وطأة ثنائية الصراع بين السلطة والاصوليين، معتدلين او متطرفين، وهذا ينطبق على انظمة سياسية في دول ذات صفاء مذهبي سني او شيعي على السواء.
الاستخلاص الجوهري الضروري الثاني هو ان مرحلة استيقاظ الحساسية المذهبية السنية - الشيعية على كونها الآن تستقطب المخاوف الاكثر شدة، وتتحول الى وعاء لتوظيفات مهمة محلية واقليمية ودولية تأخذ من ضمنها أبعادا في الجغرافيا - السياسية للمنطقة، بل اذا جاز لي هذا التعبير تأخذ أبعادا في quot;الجغرافيا - الايديولوجيةquot; للمنطقة.

... على كون الحساسية المذهبية السنية - الشيعية تحمل كل هذه الأبعاد والتوظيفات والاستقطابات، فانها لن تستطيع طويلا ان تطغى وحدها على اشكال الصراع السياسي المختلفة، ليس فقط حيال استمرار quot;الصراع القوميquot; الدائم اي الصراع العربي - الاسرائيلي، وانما ايضا حيال ثنائيات التناقض الصراعية quot;البناءةquot; والاكثر حداثة:

صراع الاستبداد - الديموقراطية
صراع الاحتكار والفساد ضد الفقر
صراع التوتاليتارية ضد الليبرالية
... وما بين وفي وعبر هذه المستويات من مدارس والوان سياسية واقتصادية وثقافية.

bull; bull; bull;

كلمة في الخاتمة هنا، هي ان مرحلة تسييس الدين التي سيطرت على الصراع السياسي في المنطقة منذ حوالى ربع قرن حتى الآن تواصل تحولها العنفي وتدخل حقبتها المذهبية... انما هي على مخاطرها الهائلة الحاضرة والآتية علامة عميقة من علامات معضلة حداثية بنيوية: quot;الدولة الفاشلةquot;!
يجب الا ننسى ذلك... لإنقاذ وعينا على الأقل طالما اننا عاجزون عن انقاذ واقعنا.