عبد الرحمن الراشد

بدأت القوات البريطانية استعدادها لانسحاب هادئ رغم أنها الدولة الثانية في القوة الدولية والسياسية في العراق. انسحاب جزئي يقدر بنحو ألف وخمسمائة جندي خلال أشهر إلا أن دلالاته كبيرة. فالتمركز البريطاني يمسك بمنطقة الجنوب التي تعتبر البوابة المتحركة مع إيران، ومنطقة إعلان الاستقلال الشيعي الراغب في الانفصال.

المعنى السياسي لا العسكري للانسحاب نفسه هو الأهم لأن كل عدد القوات البريطانية سبعة آلاف جندي أي نقطة في بحر مائة وثلاثين ألف جندي تمثل القوات الاميركية.

ورغم الانسحاب، فان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مقتنع تماما بأهمية البقاء في العراق حتى يقوم نظام سياسي وامني قوي في بغداد من اجل تجنيب البلاد خطر التفكك، وعبر عنها بشكل مقنع في ورقته التي قدمها في منتدى دافوس، الشهر الماضي، فهو يرى بشكل جازم أن الخروج المهزوم سيعني المزيد من الأزمات للعالم، لا العراق وحده، ومن ثم لابد من إكمال السير في ما تبقى من الطريق. لذا فهي مفاجأة أن يتمسك بالبقاء في شهر يناير(كانون الثاني) الماضي ويوحي بعد ثلاثة أسابيع فقط عن سحب أكثر من ربع قواته وربما أكثر. إنما صناعة السياسة البريطانية مختلفة عن الاميركية، فرئيس الوزراء جزء من الحزب، والحزب هو الذي يحكم. وهذا ما حدث لرئيسة الوزراء، الأكثر قوة، مارغريت ثاتشر حيث أقالها حزبُها رغم أن بريطانيا كانت على شفير حرب لتحرير الكويت. أقيلت لسبب آخر لأنها أصرَّت على فرض ضريبة غير شعبية اعتبرها المحافظون، أي حزبها، خطراً على مصالحهم الانتخابية.

وبلير، بغض النظر عن قناعاته السياسية، ملتزم بسياسة حزب العمال. بل وقد دفعه ذلك على ترك رئاسة الوزارة نهاية العام الحالي لأن الحزب يريد أن يتخلص من تركته السياسية قبل الانتخابات المقبلة.

أما في الولايات المتحدة، فالرئيس يوصف بأنه إمبراطور في قصره لا خادم في بيت الحزب. قراراته نهائية، ويكمل سنوات رئاسته رغما عن الحزب.

ووضع حزب بلير تتجاذبه ضرورتان؛ ضرورة الحلف مع أميركا وضرورة الفوز في الانتخابات. أكثرية السياسيين تؤمن بأن التحالف مع اميركا قدر لا خيار فيه رغم القلق من سوء القيادة الأميركية للأزمة. والتورط في حرب فاشلة سيفاقم الوضع الداخلي، خاصة مع المسلمين البريطانيين، وسينمِّي الإرهاب. الحقيقة المتكررة في المشهد السياسي البريطاني أن أي رئيس وزراء مقبل، محافظا كان أو عماليا، سيساند السياسة الاميركية بغض النظر عن أي وعود انتخابية. فهي مسألة مصيرية ظهرت بشكل واضح في حرب بريطانيا ضد الأرجنتين التي كان الدعم الاميركي وراء نصر لندن. أما العرب الذين يلومون بلير ويتباشرون بخروجه، لا يدركون أنه لن يأتي رئيس وزراء بريطاني يختلف مع أميركا في القضايا الرئيسية. فقد كان آخر رئيس وزراء فعلها انتوني ايدن إبان أزمة العدوان البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي على مصر عام 1956، عندما وقفت واشنطن ضد لندن وأجبرتها على الانسحاب، واضطر ايدن للاستقالة. بعدها لم يدخل laquo;التّن دواننغ سترتيتraquo; رئيس وزراء اختلف مع واشنطن في قضية مركزية.

[email protected]