د. رفعت السعيد
لسبب ما ـ سأورده فيما بعد ـ تداعت الي ذاكرتي مجموعة من ملاحظات قديمةrlm;.rlm;
زمان عندما كنت طالبا في مدرسة الملك الكامل الثانوية بالمنصورةrlm;,rlm; كان مدرس أول اللغة الانجليزيةrlm;,rlm; يحضر الي المدرسة بدراجة فقد كان يسكن في آخر أطراف المدينةrlm;,rlm; وأيامها لم يكن هناك تاكسي ولا حتي اتوبيسات للنقل العامrlm;,rlm; وذات يوم حضر الي المدرسة ماشيا منهكا ودخل الفصل مرهقاrlm;,rlm; وسألناه عن دراجته فأجاب بصراحة بسيطة حضرة الناظر قال إن عيب المدرس ييجي للمدرسة ببسكيلتة وأضاف وحضرة الناظر عنده حقrlm;.rlm;
وأذكر أن المدرسين أيامها كانوا يرتادون وفقط قهوة أندريا ليجلسوا معا واذا أراد أحدهم أن يلعب طاولة أو ما الي ذلكrlm;,rlm; فهناك غرفة مغلقة كي يحتفظ المدرسون بكرامتهم واحترامهم أمام الجميعrlm;,rlm; ومن باب الشقاوة حاولنا أنا وعدد من التلاميذ الجلوس في هذه القهوة فأتي الجرسون طالبا منا أن نتمشي لنجلس في قهوة رمسيس وكانت مخصصة للطلبة يتجمعون فيها بصخبهم في أيام الاجازاتrlm;.rlm; وأذكر أنه منذ عقود قليلة اتصل مسئول كبير جدا بالدكتور عبدالعظيم أنيس وهو أستاذ لأجيال عديدة من أساتذة الرياضيات ليطلب منه أن يعطي درسا خصوصيا لابنه في مادة التفاضل والتكاملrlm;,rlm; ورد دrlm;.rlm; أنيس أولا الدروس الخصوصية ممنوعةrlm;,rlm; ثانيا أنا الذي سيضع امتحان المادة في الثانوية العامةrlm;,rlm; وفيما يبدو أن الكبير كان يعرف ذلكrlm;,rlm; فأراد أن يختصر طريق المحروس ابنه نحو النجاحrlm;,rlm; وبرغم ضغوط لا داعي للتفصيل فيها صمم دrlm;.rlm; عبدالعظيم أنيس معرضا نفسه لغضب قد لا يحتمله الكثيرون ومحافظا في نفس الوقت علي كرامة المعلمrlm;.rlm;
والآن كيف تداعت هذه الذكريات؟ ولماذا؟ كنا في جلسة نناقش مسألة الأجور خاصة أجور المعلمين ومسألة الدروس الخصوصيةrlm;,rlm; وقال أحد الجالسين وهو يمتلك مطعما أنيقا علي كورنيش المعاديrlm;,rlm; إن عمال الشيشة عنده أغلبهم مدرسون آتون من قرية قرب الجيزةrlm;,rlm; وسألته ولماذا لا يعطون دروسا خصوصية؟ فأجاب لأن مدرسي الفقراء هم أيضا فقراءrlm;,rlm; فمن من فقراء القرية يستطيع أن يدفع ما يكفي هذا المدرس المسكين؟ وسألته وماذا لو رآه أحد تلاميذه وهو في زيه الفلكلوري طربوش أحمر وجلباب أزرق حاملا شيشة لأحد الزبائنrlm;,rlm; فضحك صاخبا مؤكدا أن أيا من تلاميذ المدرسة وأيا من أولياء أمورهم لا يتجاسرون علي الاقتراب من مكان كهذاrlm;.rlm; وأعرف كثيرا من المدرسين الذين لا تتيح لهم المواد التي يدرسونها فرصة اعطاء دروس خصوصية فيعملون بعد الظهر كسائقي تاكسي ونقاشينrlm;,rlm; وفي مهن أخري عديدة ويتمدد الحال الي النظار والموجهين والمديرين فهم لا يعطون دروساrlm;,rlm; ومن ثم لا يتعاطون هم وأسرهم ما يكفي من خبزrlm;,rlm; ومن ثم لا يجدون مفرا من العمل بعد الظهر لضمان خبز الأولاد ومستقبلهمrlm;.rlm;
أما الذين يعطون دروسا خصوصية فهم أكثر امتهانا لكرامتهم وإنهاكا لصحتهم من هؤلاء الذين يمتهنون مهنة غير لائقة لهذا الذي قال عنه شوقيrlm;:rlm;
كاد المعلم أن يكون رسولا
فهم يمتهنون كرامتهم ويدمرون صحتهم عندما يتجولون من بيت لبيت أو حتي عندما يستدعون الي بيوتهم مجموعات من الطلابrlm;,rlm; ويمدون في كل الأحوال أيديهم ليتقاضوا من تلميذ صغير نفحة من المالrlm;,rlm; وحتي الكبار المشهورون من هؤلاء المدرسين يمتهنون أنفسهم عندما يملون حوائط المباني بإعلانات عن مراكز يدرس فيها صاروخ اللغة العربية ومعجزة الكيمياء وrlm;,rlm;عملاق اللغة الانجليزيةrlm;.rlm;
وما يدفعهم الي هذا الواقع المرير إلا ما هو أشد مرارةrlm;,rlm; حاجة البيت والأولاد والمستقبلrlm;,rlm; الي اضعاف أضعاف مرتب الحكومةrlm;.rlm;
وسألت أحدهم ألا يشعر بالمهانة وهو يطرق أبواب التلاميذ أو يمد إليهم يده كي يتقاضي سبوبة؟ فصرخ في وجهي أليست مهانة أن تشعر بجوع أولادك وحاجتهم لملبس وغيره؟
ولم أجد اجابةrlm;.rlm;
ولكنrlm;,rlm; لنحاول أن نتأمل هذه الأوضاع بتجاوز هذه الصور الفلكلوريةrlm;..rlm; ناظر مدرسة معلق علي سلم نقاش أو يساوم صاحب الشقة علي الأجرrlm;,rlm; ومدرس يختال بطربوشه الأحمر وجلبابه الأزرق حاملا شيشة لأحد الزبائنrlm;,rlm; فللأمر جانبه الاجتماعي والمجتمعيrlm;,rlm; فبأي عقل سيقوم بالتدريس في هذه المدرسة هذا الذي يقضي أغلب ليله سهران ليقدم الشيشة للزبائن؟rlm;,rlm; واذا كان المصدر الأساسي لدخله هو هذا العمل الجانبي فإلي أين سيتجه اهتمامه وتفكيره وولاءهrlm;,rlm; المدرسة عنده مجرد مبني والتلاميذ مجرد أرقام والتعليم مجرد أداء واجبrlm;,rlm; وهو أداء شكلي بحتrlm;,rlm; ألم نكتشف دون أن نفزع أو حتي نسألrlm;,rlm; أن تلاميذ وصلوا الي المرحلة الاعدادية وهم لا يعرفون القراءة والكتابة؟ وما هي علاقة هذا المدرس المطحون بالدروس الخصوصية أو العمل الاضافيrlm;,rlm; بما يتعين أن يلقنه لتلاميذه الصغار من محبة للوطن واحترام تاريخه وضرورة التضحية من أجل مستقبله؟ وحتي طابور تحية العلم يجري تجاهلهrlm;,rlm; وفي أحيان لا أدري كثرتها يترك لخفافيش القوي الظلامية كي تبث سموم اناشيدها في طابور الصباح بدلا من النشيد القوميrlm;.rlm; وماذا يمكن أن يقوله مدرس للتاريخ لا يجد قوتا كافيا عبر مرتبه الهزيل لا هو ولا اسرتهrlm;,rlm; ولا يجد أمامه أفقا لبصيص من أملrlm;,rlm; اذ يشرح لهم تاريخ هذا الوطن الذي سلبه حقه الحقيقي في أن يعيش حياة شبه انسانيةrlm;.rlm;
زمان تعلمنا في المدرسة مهابة هذا الوطن العظيمrlm;,rlm; وتعلمنا كيف نحبه وكيف نفخر بهذا الحبrlm;,rlm; فهل سيستطيع حامل الشيشة الذي يلتقط قوت أولاده عبر بقشيش من يد مترفعة جنيها من هذا ونصفا من ذاكrlm;,rlm; هل سيستطيع أن يعلم التلاميذ مثل ما تعلمنا؟ أم أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك؟ انه بالفعل أبعد ما يكون عن ذلكrlm;.rlm;
وحتي المدرسة المبني والأثاث والأداء يتراكم فوقها غبار الاهمال محتميا بنقص الامكاناتrlm;,rlm; وهي ناقصة فعلا لكن الاهمال وعدم الاهتمام واللامبالاةrlm;,rlm; واللاانتماء يزيد الأمر وحشيةrlm;.rlm;
الأمر إذن تتمدد آثاره الي مجمل العملية التعليمية ومجمل مستقبل هذا الوطن ومستقبل ابنائهrlm;,rlm; لا تنظروا الي المستقبل عبر منظار المدارس الخاصة ومدارس اللغات فالذين ينعمون في رحابها هم قلة من أبناء القادرينrlm;,rlm; ولكن انظروا الي مدارس الفقراء حيث الناظر والمدرس والتلميذ والفصل والمبني كلهم يعانون جميعا من فقر وكآبة واحساس باللاجدوي واللاأملrlm;..rlm; فماذا تنتظرون؟
واذا كان التقدير الأولي للدروس الخصوصية يصل الي أكثر من ملياري جنيه يقتطع أغلبها من جيوب الأسر المتوسطة أو التي كانت متوسطة لتقصم ظهر موازنتها الشهرية ولتجعل المفاضلة الدائمة بين ثمن الدروس الخصوصية وطعام وملبس الأسرة بأكملهاrlm;..rlm; فكيف؟rlm;.rlm;
وهكذا نكتشف أن المسألة ليست فقط ضآلة مرتب المدرس وانهيار القيمة الفعلية للمرتب وباستمرار بفعل التضخمrlm;,rlm; وانما هي تداعيات متكاملة يؤدي كل منها الي نتائج تؤثر ليس فقط علي مستقبل العملية التعليمية وانما علي مجمل مستقبل الوطنrlm;.rlm;
وقد يزداد الأمر تعقيدا ـ وهذا أمر مثير للدهشة ـ اذا ما أضفنا الي كل ما سبق هذا الحديث المهيب والمتدافع عن مشروع جودة التعليم والذي يستهدف الوصول بمستوي التعليم في مدارسنا الي مستوي التعليم العاليrlm;..rlm; والمشروع المكتوب رائع بل أكثر من رائع ولكن كيف؟ ولمن؟
كيف؟ يمكن تصور جودة التعليم في اطار هذه المدارس الفقيرة والتي وحتي إن كانت حديثة البناء إلا أن كل مرافقها مدمرة وتلاميذها ومعلميها ومديريهاrlm;,rlm; مدمرون هم أيضا بفعل الحاجة والسعي وراء الرزقrlm;..rlm; فقط تخيلوا معي مدرسا بزيه الفلكلوري والشيشة التي يحملها ذهابا وعودة والتي تظل رائحتها معلقة به أبداrlm;,rlm; تخيلوا هذا المدرس وهو يستمع الي حديث عن جودة التعليمrlm;..rlm; والي مقارنات مع دول العالم الأخري التي تسعي نحو مستوي تعليمي أرقيrlm;.rlm; ولمن؟ فأخشي ما أخشاه أن يتجه ثقل الاصلاح وتأكيد الجودة نحو المدارس الخاصة فتتقدم بينما قطار التعليم الحكومي يتراجعrlm;,rlm; هناك تقدم وهنا تراجع فتزداد المفاصلةrlm;,rlm; وتتسع الهوة الاجتماعيةrlm;,rlm; وتتسع المسافة بين فقراء يزدادون جهلا برغم ضياع سنوات من عمرهم في مدارس لا تعلمهم شيئاrlm;,rlm; بينما يزداد أبناء القادرين سعيا نحو تعليم أفضل بفضل ما ينفقونrlm;,rlm; فنكتشف أننا أصبحنا في حالة مفاصلة بين الأغلبية الفقيرة والأقلية القادرةrlm;,rlm; وتتحول المفاصلة الي هوة سحيقة فإلي تناقض خطرrlm;,rlm; أقولها وأكررهاrlm;..rlm; سيكون خطراrlm;,rlm; بل أكثر خطورة مما يتصوره البعض الذي ينساق حول أوهام الاندفاع بالقلة القليلة الي الأمامrlm;,rlm; بينما يدفع بيده الأخري الغالبية العظمي نحو الخلفrlm;.rlm;
ونعود من حيث بدأنا لنكتشف أننا بحاجة الي رؤية واقعية متأنية محلية وليست مستوردة لمحاولة تطوير أوضاع التعليمrlm;..rlm; أقصد كل التعليم من أجل تعليم أفضل لتلاميذناrlm;,rlm; أقصد كل تلاميذنا وليس قلة قليلة منهمrlm;,rlm; وأن يعاد النظر في مجمل العملية التعليمية لنبدأ من البداية الصحيحة بأن يخلع المدرس الفقير والذي يدرس لتلاميذ فقراء في مدارس فقيرة زيه الفلكلوري ويترك خدمة زبائن الشيشة ليعود مدرسا يحترم نفسه ويحترم مهنته ويحترمه الناسrlm;..rlm; ويعود مدرسا حقاrlm;,rlm; ويعلم تلاميذه حقاrlm;,rlm; في مدرسة جديرة بأن تسمي مدرسة حقاrlm;,rlm; بعد أن يتقاضي مرتبا كافيا ولائقا حقاrlm;.rlm;
وما أريد أن أقول منذ بداية هذه الأسطرrlm;,rlm; هو أن هذا الصخب الذي يتردد في تردد عن كادر المعلمين وتقسيمهم بين مدرسي فصلrlm;..rlm; ومشرف اجتماعي وإداري وهو تقسيم سخيف وبلا منطقrlm;..rlm; هذا الصخب يجب أن يتحول وبسرعة الي حقيقةrlm;,rlm; وأن يستقر في أذهاننا جميعا أنه ليس مجرد منحة مستحقة لمعلم ولكنه واجب قوميrlm;..rlm; حتميrlm;..rlm; ضروري لأنه طوق نجاة للوطنrlm;..rlm; فهل نمنح الوطن طوق نجاته؟ هذا هو السؤالrlm;.rlm;
التعليقات