الخميس 22 مارس 2007
خيري منصور
بياض لا يشبه أي بياض، لأنه بكارة اللون وعذريته، فجأة يصبح الليل مدهوناً به، كما لو كان غراباً صبغ ريشه كي يشبه الحمامة، لكن نعيقه يفتضح حقيقته. ومن يعيشون في أصقاع ينهمر فيها الثلج معظم أيام السنة لا يمتدحون بياضه بقدر ما يمتدحون الشمس النائية التي حرموا منها، لهذا يقطعون المحيطات بحثاً عن ظهيرة دافئة مثلما قطعت أساطيلهم البحار بحثاً عن المياه الدافئة أيضاً.
يقول ناقد روسي إنه لولا الثلج والصقيع لما وجد الموسيقي والروائي الوقت والفراغ الكافيين لكتابة روايات مثل الحرب والسلام لتولستوي، أو سيمفونيات تشايكوفسكي، وتأملات برديائيف الفلسفية، لكن هذا القول لا يمكن الإركان إليه لأن أهل الاسكيمو ليسوا جميعاً فلاسفة وموسيقيين وروائيين، كل ما في الأمر أن الإنسان الذي يحاور شروط البيئة التي يولد فيها يجد مجالاً رحباً لاختبار قدراته، ومنسوب إرادته في التأقلم أو العصيان.
بالأمس، كان الثلج يحتل الليل كله، وتبدو أغصان الشجر خلف النوافذ كما لو أنها أذرع عرائس. أما الطيور فقد اختفت في مكان ما، بانتظار شروق يوقظ النبض في حناجرها الصغيرة، ولا أدري لماذا اتذكر كلما رأيت الثلج بيتاً من الشعر للبريطاني اليوت.. هو لقد فسخ الحرّ الطلاء، ودمر الثلج مقدمة السفينة، فالصيف والشتاء في كل مكان من هذا الكون يتناوبان على السفينة الرمزية ذات الأشرعة الورقية الهشة والتي يبحر فيها الإنسان بحثاً عن شاطئ آمن.
إن الثلج يختبر فينا ما تبقى من بياض لأنه أولاً يعزلنا، وثانياً يضعنا أمام أنفسنا وجهاً لوجه، بعد عمر من الهروب والفرار من الذات، ولا يتعكر لونه إلا حين تمتد إليه الأيدي البشرية لأنه كائن سماوي والأرض هي الكمين الذي يستدرجه ليذيبه ويضيفه إلى الماء العادي الذي ينتظر رحلة سماوية عبر التبخر كي يتطهر ويعود بكامل عافيته.
وأعتذر لمن يعشقون الثلج قبل أن أقول لهم إنني لا أحبه، لأنه بارد جداً، ومراوغ، وتماثيله تذوب وتتلاشى عندما نفرغ من بناء آخر ملمح من ملامحها.
ويبدو أن الناس منهم الليلي والنهاري والصيفي والشتائي والخريفي، وهذا ما يفسر تباين الأمزجة والطبائع، لكن من يعيشون في أمكنة لا يرون فيها بياض الثلج إلا عبر الشاشة أو في فيلم سينمائي من طراز ldquo;تايتانيكrdquo; فهم يشتاقون إلى رؤيته وملامسة برودته كما يشتاق أهل السويد ذات الليل الطويل إلى شمس هذا الشرق.
أذكر ان الروائي الروسي اهونبورغ كتب عن ذوبان الثلوج تعبيراً عن انتهاء المرحلة الستالينية. أما الروائي الألماني ريمارك فقد صور الموتى من الجنود الذين تجمدوا في ضواحي موسكو كما لو أنهم يذرفون الدموع لأن الشمس عندما أشرقت أذابت الجليد المتراكم تحت الجفون.
تداعيات الثلج لا آخر لها، لكنه قصير العمر، بعكس الشمس الخالدة التي ما إن تغيب حتى نسهر الليل كله بانتظار عودتها.
التعليقات