كلوفيس مقصود

كأن منظر التمثيل اللبناني في قمة الرياض بوفدين لم يكن كافياً ليدفعنا جميعاً الى رأب الصدع والتوجه بتصميم نحو معالجة جذرية لهذا العيب الذي أفقد لبنان هيبته، ناهيك بدوره ومساهمته في قضايا مصير الأمة. كان الأفضل للبنان أن يمثل بوفد موحد حتى لو انخفض مستواه أو اكتفى بسفيره لدى الرياض، بدلاً من المشهد الذي بدا فيه quot;لبنانينquot;، كأنه لا يزال يمعن في هذا الاتجاه.
وماذا يعني أن تلجأ الأكثرية النيابية الى ارسال مذكرة الى مجلس الأمن الدولي تعجيلاً لقيام المحكمة ذات الطابع الدولي سوى اعلان العجز عن إنشائها بموجب القواعد الدستورية ذات الصلة؟ كذلك ماذا يعني ان فصيلاً رئيسياً في المعارضة، بلسان النائب العماد ميشال عون يتهم موقعي المذكرة بـquot;الخيانة العظمىquot;؟ لكأن الطرفين - الاكثرية والمعارضة - أوحيا للعالم ان لبنان المنتصر على ذاته هو لبنان اللبنانين. كل منهما quot;على حقquot;، لكن اياً منهما ليس على حق quot;دائماًquot; كما كان يقول الرئيس الراحل سليمان فرنجيه. بل ان كلا منهما أخطأ بحق لبنان وكأن كلاً من الطرفين اعفى نفسه من مسؤولية العمل على وحدة لبنان ومستقبله ومستقبل اجياله الصاعدة.

ولعل رغبة السعودية في اتمام توافق مسبق بين quot;الاطرافquot; كي تتمكن من quot;ضمانquot; التوافق هي لدفع الحكومة والمعارضة الى التفاهم على صيغ للحل الذي تحضنه المملكة (لاحقاً) وبالتالي تستطيع رئاسة القمة العربية سد quot;الثغرةquot; اللبنانية في العمل العربي المشترك، أسوة بما حصل في اتفاق مكة مع الفلسطينيين، وهكذا يقفل باب توظيف الثغر لتندفع قرارات القمة نحو التنفيذ بدون ابطاء وتقطّع لئلا يخسر العرب ما انجزته قمة الرياض مثلما حصل في العديد من القمم السابقة. وكأن الرسالة تقول: على لبنان ان يعي مسؤوليته حيال العرب حتى يعي العرب مسؤوليتهم حيال لبنان. ورغم بعض الشكوك والنواقص التي تشوب هذه المعادلة - نظراً الى خبرة العرب مع quot;قممهمquot; وان الانجاز الذي تحقق في اتفاق مكة يشير الى جدية التزام رئاسة القمة لإرساء قواعد ذات صدقية تجعل احتمالات الصيرورة واعدة.

* * *

ان عقد اجتماع احتضاني للتوافق في الرياض انما هو وسيلة لترسيخ جدية التأكيد لتنفيذ بنوده. الغاية تكمن في جوهر التوافق ومضامينه، وفي ما اذا كانت الصيغة المعتمدة هي بمثابة حل شامل بدلاً من التسويات الهشة التي تخفي ترقيعات مخدرة، لكونها تستند الى فلسفة تعايش الطائفيين، بدلاً من بناء دولة المواطنين. وما نشاهد من حدة في التخاطب بين قيادات الطوائف ما هو سوى الضجيج الذي يحول دون مراجعة اسباب الازمة المتفاقمة والاصرار على الفلتان في التصرف وفي الخطاب السياسي. هذا الفلتان الساعي الى تحريض متبادل أخرج الكلمة المسؤولة من حيز التداول وبعثر مسيرة التوصل الى الحقائق باعتماد جزئياتها، وطرحها من الاكثرية والمعارضة كأنها حقائق متكاملة. فتحول كلام المؤسسة الحاكمة، بشقيها الحاكم والمعارض ثرثرة وتشويشاً أكثر من كونه الخطاب السياسي الذي يحمل أجوبة عن اسئلة واسلوباً نقدياً للذات ومحاولة جادة للنفاذ الى مسببات القلق والمخاوف التي تطغى على المواطنين.

ان القلق آخذ في التحول توتراً، وهنا مكمن الخطر. القلق يدفع المواطن الى التصحيح في حين ان حالة التوتر ترافق الشعور بالضياع. القلق حالة تعمل على استحضار بوصلة؛ والتوتر يؤول الى شعور بفقدان البوصلة. لذا قبل التخلّي عن المسعى الى استقامة العلاقة بين المواطنين - لا بين الطوائف - على اساس الانتماء والالتزام الكل اللبناني. على لبنان الدولة ان يكون مرآة، أو بالاحرى، تجسيداً للمجتمع لا ان تكون الدولة كما هي الآن منفكة عنه بسبب النظام القائم ومؤسسته بشقيها الحاكم والمعارض.

لقد برهن النظام الطائفي انه يفرز مسلسلاً من المشاكل في حين ان اللاطائفية تجعل لبنان قضية جديرة بأن تبقى محصنة ومنيعة، لكون لبنان القضية مرتبطاً عضويا بقيم تتجاوز حدوده، ورسالة تعيد زرع بذور نهضة الامة التي ينتمي اليها. ان التزمّت الطائفي هو في نهاية الامر احتراف ومهمة، في حين ان المواطنة انتماء والتزام رؤيا والتعبئة لتحقيق عناصرها. ثم ان الطائفية تعتبر المساومة وانصاف الحلول مدخلا الى الاستقرار في حين ان المواطنة تفترض بديهة الاستقرار وتعتبره نقطة بداية لا جدل في كونها مسلّمة في حين ان الطائفية تحدد كون الاستقرار انجازا حتى لو كان موقتا. لبنان يستحق ان يطمح الى ما هو اكثر بكثير واشمل وارقى من الاستقراءات الظرفية، حيث يستود التكاذب ويتجذر الانقسام وسياسات التقاسم، ثم تتعمق الفجوة بين الدولة والمجتمع، بين انفتاح المواطن وانغلاق الطائفي. فحتى داخل المؤسسة الطائفية - بشقيها الحاكم والمعارض ndash; يستطيع المواطن اللاطائفي الذي يتشكل فيه المجتمع المدني ان يوظف ما قد ينجزه الحكم وما تفرزه المعارضة ndash; المقاومة لإثراء لبنان القضية، ولبنان الرسالة. في حين ان المؤسسة الطائفية تفرط الى حد كبير بما انجزته كل من الحكومة ndash; مثلا مؤتمر باريس -3 ndash; والمقاومة المعارضة بصمودها الملهم والاحتضان الذي رافق مسيرتها اثناء العدوان الاسرائيلي على لبنان.

يستتبع ان المطلوب مرحليا هو تجاوز الفصام الحالي بين المؤسسة الحاكمة ndash; بشقيها الحاكم والمعارض ndash; وبين المجتمع اللبناني الذي تتجدد علاقات عناصره بعضها مع بعض من كونها ملتصقة مباشرة بالهموم المطلبية واليومية والتوقعات المشروعة وعلى مواكبة التطورات في عوالم الثقافة وحواراتها والتكيف السريع مع الثورات التقنية وفرص التنمية المستدامة والاسهام الفوري في مكافحة الفقر وتمكن لبنان من استئناف دوره التنويري بدلا من ادخاله في سجون الطائفية التي ينحصر طموحها في تأمين ديمومة الولاء كأولوية، وجعل ما تعدى ذلك مجرد هوامش تسوق لكونها تعطي ممثل الطائفة صفة اوسع من quot;طائفيته!quot;.

bull; bull; bull;

لبنان اليوم على مفترق طريق والانقسام القائم يجعله سجين اللاحسم وبالتالي يستصعب القيام باختراق مطلوب. صحيح ان الاختراق المرغوب يصبح ممكنا بمقدار ما يترجح لبنان المواطن على لبنان الطائفي، واذا كان عراقيل امام المرغوب فهذا لا يعني ان اختراقا مطلوبا ليس بعيدا عن الامكان. من هذا المنظور يتحتم ان تستعين المؤسسة الحاكمة بشقيها، الحاكم والمعارض، بفئات من مواطنين مؤهلين للمشاركة في تقرير مصير لبنان. وهذا يعني مشاركة فعلية للمجتمع المدني من خلال تجسيم صانعي الرأي مع صانعي القرار، وكما اشرنا سابقا، يجب ان تتاح للمواطنين اللاطائفيين فرصة لهندسة سياج اللحمة الوطنية التي كان ولا يزال تغييبها سببا لفقدان الحوارات والمشاورات للمناعة ولتعريضها كما اختبرنا لتعميم القنوط والسقوط في مستنقعات الاجترار والعبث
ولعل احدى الاجراءات الفورية المطلوبة يقضي بالتوقيع على ايفاد السفراء المعتمدين لئلا تمعن حالتهم الراهنة في نواقص التمثيل الحالي وما ينتج من عجز في الاداء وجعل الممثليات في الخارج تقارب اللااستقرار والشرذمة في الداخل، فتشوه صورة لبنان كما اهتزت صورته في القمة.

واذا رأت رئاسة القمة العربية ان استضافتها للحواريين تشكل عائقا لحيوية مسيرة العمل العربي المشترك، فان استضافتها للجنة حوار الطوائفيين لن يكون ناجحا وبالتالي ملزما ان لم تكن للمواطنة وللمجتمع المدني مساهمة في نتائج ما يطرح من حلول.

هذا بدوره يعني ان تعتذر quot;الاكثريةquot; مما يعتبر شكوى في غير محلها من خلال مذكرتها لمجلس الامن، لكون هذا التسرع، ايا تكن مبرراته، يعتبر تحريضا على اخراج quot;اللبنانيةquot; من المحكمة اللبنانية ذات الطابع الدولي، كما ان مجلس الامن وان تميز لا يستطيع التفاوض مع شرائح من السلطة التشريعية. ولا بد من ان يصر على ان تكون اي مذكرة للتعجيل او للتمهل منبثقة من السلطة التنفيذية. وتكمن المعضلة في ان كلا من الحكومة ورئاسة الجمهورية تطعن بشرعية الاخرى، ويستدرج هذا الوضع او هذه الثنائية المريضة تدخلات قوى دولية واقليمية تمعن في شرذمة رؤية العالم اللبناني ويرشح لبنان مرة اخرى للتحول ساحة تصفية حسابات الغير على حساب استقلاله وسيادته وحريته وعروبته ايضا.
كذلك على العماد ميشال عون ان يعتذر فورا لموقعي المذكرة المرفوعة الى مجلس الامن بعدما اتهمهم بارتكاب quot;خيانة عظمىquot; لأن ما قامت به الاكثرية تسرع في غير وقته ومؤشر الى انقطاع اي حوار، ليس حول ضرورة المحكمة، فهناك اجماع عليها، بل على بعض اوجه الصلاحيات. فالفرضية التي دفعت الاكثرية الى ما يقارب quot;الشكوىquot; كان خطأ لا يصحح بخطيئة الاتهام بارتكاب خيانة ناهيك بخيانة عظمى.

bull; bull; bull;

لقد زار كثيرون من المسؤولين الذين جاؤوا من عواصم دولية واقليمية لبنان في المدة الاخيرة. واعتبر بعضهم هذه الزيارات دليل اهتمام بالمصير اللبناني، في حين ان هدف معظم الزيارات كان السعي الى تبيان كيف تستطيع هذه القوى الدولية والاقليمية توظيف الانقسام، او بالاحرى التشرذم، لخدمة المآرب في المنطقة المستباحة، والتي يشكل لبنان مختبرا تتم من خلاله التجاذبات الضارة به خصوصا وبالعرب اجمالا. لذا يجب تحييد لبنان عن هذه التجاذبات الضارة من خلال تمكين لبنان الموحد من معاودة اداء دوره القومي والقادر لجعل تجربته في التعددية نموذجا لتخليص الشعب في كل الاوطان العربية ولمواجهة ما لا يزال يعانيه لبنان من تبعثر للحيوية الكامنة فيه. هذا الدور عطلته أزماته المتقطعة وحان الوقت ان يستعيد دوره في الانارة بعدما كاد ان يصير نموذجا يستحسن تفاديه.

bull; bull; bull;

ما اصعب قراءة لبنان وما أهون حبه والانجذاب اليه. كلنا نغضب لشرذمته ولجموده وبعثرة طاقاته، كما نغضب لتعطيل امكاناته حيال كل من يعطل التلاحم الوطني، وحيال تصنيف المواطن من خلال طائفته كأن اللبناني عاجز عن ان يكون لبنانيا فحسب.
وعلى رغم الغضب المتزايد... يبقى quot;بحبك يا لبنانquot; هو الاقوى والارجح والاكرم.