الخميس 12 أبريل 2007


جميل مطر

فوجئنا ذات يوم بالرئيس الأمريكي يعلن، ثم يكرر في مناسبات متعددة إعجابه الشديد بأفكار شارانسكي الوزير ldquo;الإسرائيليrdquo; من أصل روسي، وهي الأفكار التي سطرها في كتابه عن الديمقراطية. وقتها بدا الرئيس بوش كما لو كان اكتشف من جديد أهمية الديمقراطية. ومرت الشهور وتبين أن شارون بنفسه، وعن طريق الأجهزة الدبلوماسية والاستخباراتية كان يضغط على إدارة الرئيس بوش ناصحاً ومحذراً ضد فرض الديمقراطية على أصدقاء أمريكا في الشرق الأوسط، بحجة أن الديمقراطية العربية سوف تفرز بالضرورة تيارات وأحزاباً معادية ل ldquo;إسرائيلrdquo; ومعاكسة للسلام، كما تفهمه ldquo;إسرائيلrdquo; والولايات المتحدة.

بهكذا ضغوط ونصائح لم تكن ldquo;إسرائيلrdquo; وفية لسمعتها التي يروج لها محبون في الغرب ومنبهرون في العالم العربي، كنموذج ديمقراطي يجب أن يحتذى في الشرق الأوسط. وعلى كل حال لم تكن ldquo;إسرائيلrdquo; في أي يوم وفية لهذه السمعة وبالتأكيد لم تستحقها. فالديمقراطية في أي شكل لها تتناقض وممارسات التمييز العنصري أو الطائفي أو العرقي، أيا كانت صفة التمييز الذي تمارسه ldquo;إسرائيلrdquo; ضد ldquo;مواطنيهاrdquo; من أصول عربية.. مسلمين أو مسيحيين. والديمقراطية في صيغتها الغربية تتناقض والدولة الدينية، أو الدولة شديدة التعصب عرقياً أو قومياً. وrdquo;إسرائيلrdquo; دولة دينية بامتياز وقومية وعنصرية أيضاً بامتياز.

نعرف أن ldquo;إسرائيلrdquo; حالة استثنائية، فهي فوق النقد. قليلون في الولايات المتحدة أو في دول الغرب أو في أي مكان آخر من يقول بأنها لا تستحق صفة النموذج الديمقراطي. أما الغالبية فمقتنعون أنها تستحق تلك الصفة، وإن بقي بعضهم خائفاً من سيف الاتهام بالعداء للسامية. تستطيع ldquo;إسرائيلrdquo; أن تمارس التمييز والاعتقال والقمع وتقييد حرية التعبير ومصادرة الأموال وفرض الحصار بحجة الدفاع عن أمنها ومصالحها الحيوية، من دون أن يصدر اتهام بأن هذه الممارسات عجز في الديمقراطية. ومع ذلك هاجت الدبلوماسية الأمريكية، والرئيس بوش على رأسها ومحللون سياسيون عرب حين وصل إيفو موراليس إلى منصب رئيس الجمهورية في بوليفيا بانتخابات ديمقراطية شهدت أجهزة الرقابة الدولية سلامتها ونظافتها، وحين تجددت لهوغو شافيز رئاسة ثانية في فنزويلا في انتخابات لم تقدم واشنطن دليلاً واحداً يشوه صورتها، وحين عاد أورتيجا الزعيم الذي أسقطته الولايات المتحدة منذ أكثر من عشرين عاماً إلى رئاسة الدولة في نيكاراجوا عن طريق انتخابات حرة ونزيهة تماماً كتلك التي جاء بها إلى الحكم في الثمانينات.

في هذه الحالة، كما في حالات أخرى كثيرة، يتنكرون في واشنطن للديمقراطية، ليس لأنها ناقصة أو مشوهة، ولكن لأن النخبة السياسية التي وصلت إلى الحكم ليست ldquo;ليبراليةrdquo;، ففي دول كثيرة من قارة أمريكا اللاتينية يقف الحكام الجدد الذين وصلوا إلى الحكم على أكتاف أغلبية ترفض الوحشية التي صاحبت اقتصاد السوق. وترفض بيع مصادر الثروة إلى الأجانب، وتعاني من فقر متزايد في ظل مبادئ حرية التجارة الدولية تشكو من اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وانهيار التعليم والسقوط المدوي لمنظومة الأخلاق بسبب الفساد وسوء الإدارة وصدام الأديان والمذاهب، وأقصد تحديداً الصدام بين الكاثوليكية المنحسرة والبروتستانتية الزاحفة. هؤلاء الحكام، حكمت عليهم السياسة الأمريكية بأن ديمقراطيتهم ناقصة، لا لسبب إلا أنهم غير ليبراليين اقتصادياً وغير محافظين اجتماعياً.

هذا التناقض في الفكر الديمقراطي، كما بشرت به الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، دفع البعض منا إلى تحميله جانباً من مسؤولية الكراهية المتزايدة للولايات المتحدة وحلفائها في دول كثيرة. إذ لا يخفى على متابعي التطورات في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، أن معظم الغضب الجماهيري وغضب النخب المثقفة موجه ضد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باعتبارهما من المؤسسات الدولية التي تنحاز علناً ومن خلال برامجها لجانب الليبرالية الاقتصادية على حساب الديمقراطية. تفضل هذه المؤسسات الدولية نظام حكم أوجستو بينوشيه الدكتاتور العسكري الذي حقق ما يسمى بالأحلام الاقتصادية في شيلي عن طريق الاستبداد السياسي وخنق الحريات واغتيال المعارضين، ولا تفضل نستور كيرينتشر الرئيس الأرجنتيني المنتخب ديمقراطياً لأنه وصل إلى الحكم على أساس برنامج لوقف الفوضى الاقتصادية التي نتجت عن سياسات اقتصادية متطرفة فرضها صندوق النقد الدولي وأدت إلى انهيار الاقتصاد الأرجنتيني في عام 2000 حين أعلنت الدولة إفلاسها. كان هذا الانهيار، في واقع الأمر، جرس الإنذار الذي أيقظ بقية القارة ونبهها إلى خطورة المبالغة في تنفيذ ليبرالية اقتصادية متطرفة على حساب الديمقراطية.

وكالحال في أمريكا اللاتينية، يتعايش في قلق متبادل تياران في النخبة الثقافية في الدول العربية، تيار ليبرالي يفضل ديمقراطية أقل لو قابلت مسيرة الإصلاح الاقتصادي عقبات بسبب التطبيق الديمقراطي أو لو ظهرت على المسرح قوى سياسية تهدد هيمنة التيار الليبرالي المتحالف وقتياً مع التيار الحاكم. وعلى الجانب الآخر تيار ديمقراطي ldquo;مثاليrdquo; يعتبر أن الليبرالية الاقتصادية المتطرفة تضر بمصالح الأغلبية باعتبار أنها تركز الثروة في أيدي أفراد أو عائلات محدودة العدد. ويعتبر أن استبعاد شرائح أو اتجاهات في المجتمع عن المشاركة السياسية بسبب انتماءاتها الدينية أو السياسية أو الأيديولوجية لا يخدم في النهاية سوى أهداف القلة المسيطرة على الحكم والرافضة لتحول حقيقي في المجتمع في اتجاه الديمقراطية.

لذلك يبدو منطقياً ومتمشياً مع هيمنة أفكار السوق وممارساته أن يتراجع الرئيس بوش، فيقبل بنداءات رئيس الوزراء السابق شارون التي تصادف أنها تتفق مع حجج عدد من الزعماء العرب. وتوقفت أو كادت تتوقف حملته وحملة السيدة رايس لنشر الديمقراطية ومحاسبة الحكومات العربية على أدائها في مجال الحريات والحقوق السياسية. وعاد اهتمام واشنطن يتركز على محاسبة الحكام العرب على قضايا تعتبرها واشنطن الآن الأهم، إحداها وأهمها الاصطفاف لحل أزمة أمريكا في العراق ومع إيران، والثانية، التطبيع مع ldquo;إسرائيلrdquo; وإنهاء الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; على حساب الصراع الفلسطيني ldquo;الإسرائيليrdquo;. والثالثة أن تكون موريتانيا الديمقراطية المتحالفة مع ldquo;إسرائيلrdquo; قدوة للعرب.

كم تمنيت، على امتداد حملة الانبهار بموريتانيا، أن نقرأ وبدقة تعديلات الدستور في موريتانيا وميول واتجاهات الحكام الجدد، وهم غير جدد، لنعرف جانباً من الحقيقة وراء هذا الاهتمام المبالغ فيه من جانب قطاعات مهمة في النخبة السياسية العربية. فقد بالغ في الترحيب بالتجربة قطاع في النخبة السياسية العربية أحبطته خيبات الأمل في حكومات عربية انتصرت على أمريكا فعززت استبدادها وضيقت الخناق على الحقوق والحريات، وبالغ أيضاً قطاع في النخبة لا يهمه شيء أكثر من التطبيع مع ldquo;إسرائيلrdquo;. المثير أن القطاعين في النخبة العربية غابت عنهما حقائق في التجربة الموريتانية لم يبرزها الإعلام العربي أو الغربي، وبعضها لا يؤهل موريتانيا لموقع القدوة في التجربة الديمقراطية بينما يؤهلها لموقع القدوة في تجربة التطبيع مع ldquo;إسرائيلrdquo;.

وعندي شخصياً تحفظ على الفهم الإيراني، كالفهم العربي والإسلامي عموماً للديمقراطية، وهو الفهم الذي يركز على الخصوصية الثقافية. وقد عزز تحفظي عن غير قصد الرئيس السابق محمد خاتمي وهو عالم وقارئ وسياسي محنك وكان صادقاً معنا في لقاء جمعنا به الأستاذ محمد حسنين هيكل حين أشاد بالديمقراطية كفكر وعقيدة سياسية، ولكنه حين تحدث عن الموقف في العراق قال ldquo;لماذا يرفض ldquo;الديمقراطيونrdquo; سيطرة الشيعة على الحكم، ألا يشكلون الأغلبية وأليس حكم الأغلبية جوهر الديمقراطية؟rdquo;.

هكذا كشف الرئيس خاتمي عن المحظور، فالديمقراطية عنده نظام يهدف إلى تنظيم علاقات الحكم بين الأديان أو التيارات الدينية. لكن الديمقراطية كما هو معروف عقيدة سياسية غير مقدسة أما الأديان فهي عقائد إلهية مقدسة.