زهير المخ
منذ الأيام الأولي لعراق ما بعد صدام، اقتحم مقتدي الصدر المسرح العراقي بعنف باحثاً عن دور في الخريطة السياسية الجديدة، ومطالباً القوي الأخري بالاعتراف به، متكئاً في سعيه هذا علي رصيد عائلي وإرث شيعي غني بالشهداء المثير للعواطف والحماسة، فهو سليل أسرة مليء تاريخها بالأمجاد والمآسي معاً.
لقد ترك أسلافه بصماتهم علي صفحات الزمن الشيعي العراقي لكنهم انتهوا مقتولين، ومن بينهم والده المرجع الأعلي السيد محمد صادق الصدر أو زاهدين متعبدين أو علماء منهم شقيقه مصطفي الذي نأي بنفسه بعيداً عن دائرة الضوء وأصبح ناسكاً دافناً نفسه في التحصيل الديني. أما مقتدي الذي ولد في العام 1974، فقد عاني طفولة صعبة، من أب لا يهتم به لأنه غارق في إدارة المرجعية، وأخوة كبار كانوا يبدون الكثير من الامتعاض لتصرفات الصبي المتهورة. وفعلت هذه المعاناة في نفسه فازداد ميله الطبيعي إلي تعميق حضوره العام بموازاة الحذر من الآخرين، وهما سمتان بارزتان في شخصيته.
ينظر مقتدي إلي العالم بعينين هاربتين، نظرة خوف وكأنه رجل مطارد يتربص به الشر وهو يفتش عن سبيل للبقاء في صورة الأحداث. وبالنسبة للذين يعرفونه عن قرب لا يتوانون عن وصفه بأنه عصبي المزاج، يفضل الأفكار البسيطة والأجوبة الجاهزة، ويضايقه الكلام المفخم والثقيل علي مسامع الناس، وهو في نظره ينطوي علي الكثير من العجز. ورأي آخرون فيه quot;رجل غموض وألغازquot;، يتصرف سراً ويحيط نفسه بالأحاجي.
وسيم الطلعة يعني بقيافته وهندامه، ليس من باب الوجاهة، كما قد يظن البعض للوهلة الأولي، بل من أجل صناعة quot;رمزquot;، حيث باتت صوره تزين المحلات والمخازن والحسينيات وحتي الحافلات العامة. وبما أن الصور لوحدها لا تكفي لانتزاع الأدوار، فقد اندفع بقوة لحجز مقعد في مكان فارغ ليتسابق مع قوي سياسية أخري لاقتسامه، وبدا باكراً أنه يطبق quot;إستراتيجيةquot; اختطاف المواقع عوضاً عن التنافس مع الآخرين للفوز بها.
وبالفعل، فقد أوحت ممارسات مقتدي الأولي بأنه قادر أن يخيف أكثر مما هو قادر أن يقنع، لكنه مع ذلك أظهر قدرة علي الاستقطاب، ليس من خلال إتقانه استعمال سلاح الدين في السياسة أو لغة اللاهوت في الإيديولوجيا، بل لأنه بعث في الطائفة الشيعية شعوراً برفض الاستكانة الواقعية التي ميّزت بالإجمال التراث التاريخي لعلماء الشيعة التي أعادتهم إلي موقع شبه هامشي علي الخريطة السياسية العراقية.
لقد بدا هذا الشاب المتعجّل وكأنه يندفع لتنفيذ انقلاب واسع داخل طائفته، بل ربما علي المسرح العراقي برمته، حينما سعي إلي تمييز حوزته quot;الناطقةquot; عن مثيلتها quot;الصامتةquot;، وبدور الأولي الفاعل في السعي إلي إقامة صرح quot;الجمهورية الإسلاميةquot; في العراق، وهو تمييز يضرب بجذوره عميقاً في المؤسسة الدينية الشيعية، ويتجسد في الخلاف التقليدي الذي شهدته الساحة الشيعية العراقية في مطلع القرن الماضي بين علماء الدين ذوي الأصول العربية ونظرائهم ذوي الأصول الفارسية، في تلميح صريح إلي دور المرجعية العليا لآية الله علي السيستاني، إلا أن هذه الاستعارة التاريخية بدت وكأنها أشبه بتحدي طالب في مقاعد الدراسة الأولية لأستاذه. ففي مراحل نشأته الأولي، تلقي مقتدي معارفه الأولية علي يد quot;كتاتيبquot; النجف بالرغم من وجود نظام تربوي حكومي عصري، لكنه سرعان ما التحق بالدراسة في quot;الحوزة العلميةquot;، إلا أنه لم يظهر أي مقدرة في استيعاب علوم اللغة والفقه الإسلامي، وبالتالي لم يصل إلي مرتبة المجتهد، ويعرف في الحوزة العلمية في النجف بأنه ليس أكثر من quot;طالب بحث خارجيquot;، وهو أمر لا ينفيه مقتدي نفسه الذي ظل يردد دائماً أنه quot;ليس مرجعية مقلدةquot;، بل وكيل المرجع آية الله كاظم الحائري المقيم في مدينة قم الإيرانية، quot;تطبيقاً لوصية الوالدquot;. بعبارة أخري، يطمح مقتدي إلي القيام بدور شبه بدور أبيه، مع علمه اليقين أنه لا يستطيع اختراق التراتبية الشيعية في النجف.
إلا أن مقتدي لم يكن يعوزه الطموح ولا العناد كي يفرض نفسه لاعباً بعد أن أنشأ مليشيا مسلحة أطلق علي تسميتها quot;جيش المهديquot;، هذه المنظمة الشيعية ذات الطابع الاجتماعي- السياسي احتفلت بتخريج أول quot;كتيبةquot; في مدينة البصرة الجنوبية في أكتوبر (تشرين الأول) 2003 ، وأظهر، في المقابل، قدرة علي استقطاب ليس الناقمين والمهمشين فحسب، بل تسلل إلي تياره الباحثون عن فرصة حماية أو فرصة استقواء من بينهم عناصر من نظام منقرض ومن ضباط أمنيين سابقين وأعضاء في حزب البعث المنحل لفوا رؤوسهم بأقمشة بيضاء وسوداء في مزيج فريد ومثير بين طلب الجنة ورقصة الأبالسة في الجحيم.
كما أدرك مقتدي، ربما بغريزته، أن الفعالية السياسية لحركة ما تستند، من حيث الجوهر، علي قدرتها في تحريك الحواس الشعبية والعصبية الطائفية أكثر مما تقوم علي منطقها السياسي الداخلي. وعلي الرغم من أنه لم يستوعب توظيف المؤشرات والروحانيات الشيعية إلا لماماً، إلا أنه مع ذلك لا يترك فرصة من غير أن يشير إلي آيات من التراث الشيعي المليء برائحة الدم وقوافل الشهداء، فهو يجيد لعبة الرموز في السياسة.
دأب مقتدي علي إلقاء خطب نارية في صلاة الجمعة في مسجد الكوفة الشهير شخصياً حيناً وبالوكالة حيناً آخر، تتأرجح بين الديني والسياسي، كي يستثمر جزءاً من المشكلة بدلاً من القدرة علي ابتكار الحلول. فقد تميزت مواقفه السياسية ب quot;الحردquot; الدائم، الذي يتخفي بين ثنايا عموميات لا يصح أبداً وصفها بالبرنامج، حتي أصبح، وبحق، quot;رمزاًquot; للرفض العدمي.
متصلب ومكابر، يبدأ خطاباته النارية دائماً بالرفض، ويلعب قصداً دور quot;الملهمquot; لمقاومة الاحتلال. وبما أن شخصيته تربك الجميع، فقد تحول مقتدي الصدر مشكلة للحكومة العراقية، فهي لا تستطيع تلبية مطالبه، ولا تستطيع احتواءه ويصعب عليه إقناعه أو علي الأقل تنظيم الرقصة معه، فقد بات نفوذه المتصاعد تهديداً جدياً لهيبتها، بل تحول تهديداً يومياً كان لا بد من الاصطدام به.
من جانبه، لم يفوت مقتدي الصدر أي فرصة لإضاعة الفرصة، ويبدو أنه بات يستمتع بدور المتمرد علي السلطة، الدور الذي برغم ما ينطوي علي مضامين سلبية، إلا أنه يجلب له استقطاباً شعبياً باستمرار، وهو في أغلب الظن زاده الوحيد.
التعليقات