تركي الحمد

حين يكون هناك خلاف مع تيار فكري ما، أو حركة سياسية معينة، مهما كانت العقيدة التي يبشر بها هذا التيار أو تلك الحركة، فإن مثل هذا الخلاف لا يعني النفي أو الإقصاء للطرف المختلف معه، أو من المفترض أن يكون هذا هو الوضع، وذلك إذا كنا نتحدث عن ديموقراطية ليست عرجاء، أو ليبرالية فعلية، أو حتى علمانية قائمة على أسس صحيحة. الموقف الليبرالي الحق هو ما عبر عنه فرانسوا فولتير عندما قال لجان جاك روسو، وهو في محنته، كلمته المشهورة: laquo;إني أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد للتضحية بحياتي من أجل حقك في أن تبدي رأيكraquo;. وبدون مثل هذه الليبرالية التي تساوي بين الجميع في حق الرأي والمعتقد والفكر، فإنه لا ديموقراطية حقيقية يمكن أن تقوم، حتى لو كانت هنالك صناديق اقتراع، وأحزاب سياسية متنافسة. كل ذلك لا يعني أي شيء إذا غابت الحرية التي هي لب الليبرالية.

وما حرية الصحافة، والشفافية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحرية التجمع وتكوين الأحزاب والنقابات، وحرية التعبير عن الذات، مهما كان هذا التعبير، إلا مأسسة للقيم الليبرالية، التي هي أساس كل ديموقراطية وأي ديموقراطية، بل حتى أنه لا معنى للعلمانية ذاتها عندما تكون قيم الليبرالية غائبة، وعندما بالتالي تنتفي الديموقراطية الحقيقية. فالعلمانية تعني في النهاية الفصل بين المؤسسات الدينية (وليس ذات الدين) عن السياسة، بحيث تصبح السياسة فن صنع الدنيا، فنحن أعلم بأمور دنيانا، بينما تبقى المؤسسة الدينية مختصة بالشؤون غير الدنيوية. هذا لا يعني أن المنتسب إلى المؤسسة الدينية (شيخاً كان أو طالب علم أو قسيساً أو حبراً أو ناسكاً) لا يحق له ممارسة السياسة، بل له كل الحق في ذلك، ولكن بصفته مواطناً ضمن مواطنين، وليس مالكاً لحقيقة مطلقة على الجميع قبولها، وإلا فإنهم من الهالكين. وفي هذا المجال، تحضرني مقولة أخرى لفولتير يقول فيها: laquo;إن الإنسان الذي يقول لي اليوم: آمن كما أؤمن وإلا سيعاقبك الله، سوف يقول لي غداً: آمن كما أؤمن وإلا قتلتكraquo;.

مناسبة هذا الحديث هو ما يجري اليوم في تركيا، والأزمة السياسية التي تعيشها البلاد بعد ترشيح وزير الخارجية عبد الله غل لمنصب رئيس الجمهورية، وتهديد المؤسسة العسكرية المبطن بالتدخل بصفتها، وفق الدستور التركي، حامي العلمانية التركية والإرث الكمالي. مثل هذه الأزمة ما كان يجب أن تحدث في جمهورية ينص دستورها على العلمانية والديموقراطية بالتالي. فالديموقراطية، وكما ذُكر آنفاً، لا تسير بساق واحدة، والعلمانية تفصل ما بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، ولكنها لا تمنع المنتمي إلى هذه المؤسسة، أو من لديه اتجاهات دينية، من ممارسة السياسة بصفته مواطنا له الحق في ذلك. ولكن عندما يبدأ مثل هذا الشخص أو هذه الجماعة أو هذا الحزب في فرض قناعاته الدينية على المجتمع والدولة حين يسيطر على الحكومة أو المنصب الأعلى في الدولة، فعند هذه النقطة يكون قد خالف الدستور، والقيم الليبرالية التي تشكل البنية التحتية للديموقراطية والعلمانية معاً، وحين ذاك تنتفي شرعيته، ولا يكون هناك مناص من التدخل وفق أسس دستورية يخضع لها الجميع. مثل هذا الشيء لم يحدث في تركيا.

فرغم أن حزب العدالة والتنمية له توجهات إسلاموية (الإسلام مؤدلجاً)، إلا أنه يؤكد دائماً على احترام الدستور واحترام العلمانية، التي تشكل شرعية الدولة التركية الحديثة. والحقيقة أن التجربة السياسية للإسلاموية التركية مختلفة تماماً عن مثيلاتها في بلاد العرب خاصة، وبلاد المسلمين عامة، من حيث القبول بالآخر، ومن حيث التأكيد أن الدولة لجميع مواطنيها مهما كانت عقائدهم واتجاهاتهم (الدين لله والوطن للجميع)، مثلها في ذلك مثل الأحزاب السياسية المسيحية في أوروبا، التي تبشر بقيمها ومنطلقاتها، ولكن من دون التقليل من شأن قيم ومنطلقات الآخرين، ومن دون أن يكون هناك اتجاه لنفي الأساس العلماني للدولة، الذي يشكل شرعية الدولة، ودونها تنتفي ذات الشرعية.

عندما تكون الديموقراطية الحقيقية هي الممارسة فعلا، فإنه لا خوف من انقلاب الأوضاع، فالديموقراطية تعني فيما تعني، عملية دوران النخب، أي أن هنالك انتخابات دورية بعد كل فترة من الزمن، بحيث أن المواطن يستطيع أن يغير الأوضاع بعد حين، إن لم يقتنع بالأداء. أما إذا كان الوضع، وكما هو حاصل في بلاد العرب خاصة، أن تكون الديموقراطية مجرد أداة للوصول إلى السلطة، ومن ثم إلغاء ذات الديموقراطية، فإن الحالة تختلف هنا. فمن يدخل في لعبة سياسية معينة، عليه أن يقبل بقواعد اللعبة، وإلا فإنه لا يحق له المشاركة فيها. فحين يطرح الإسلامويون العرب مثل هذا الطرح، فإنه لا يحق لهم ممارسة اللعبة الديموقراطية، التي لا يعترفون بها، غير أن الوضع هو غير الوضع في التجربة التركية، وليكن في ذلك مثل.

يُعتبر رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، من أكثر المناصرين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ومن أكثر العاملين على تجاوز كافة المعوقات التي تقف في طريق ذلك، وهو المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الديني، مما يعني أن الرجل لا يمارس السياسة من منطلق ديني، بقدر ما أنه يمارسها من منطلق واقعي بصفتها فن الممكن، والبحث عن المصلحة الوطنية. انتماء تركيا إلى الغرب، وفسخ عري العلاقة التاريخية ـ الوجدانية مع الشرق، فيه الكثير من المنافع لتركيا، بغض النظر عن أي حديث آيديولوجي أو وجداني قد يُرضي الذات الجريحة، ولكنه لا يُرضي الذات الجائعة أو العاطلة عن العمل.

إسلامويو عالم العرب معنيون بالذات الجريحة، التي لا ترياق لها إلا عودة الماضي، بخلافته وإمامته وعمامته، وذلك من منطلقات وجدانية لا علاقة لها برغيف الخبز أو حرية الكلمة. إسلامويو تركيا، ممثلون بحزب العدالة والتنمية، لا علاقة لهم بالخلافة والإمامة والعمامة، فهم ينظرون غرباً، وفي ذهنهم كل مفاهيم السياسة بصفتها فن الأخذ والعطاء، مثلهم في ذلك مثل الأحزاب المسيحية الأوروبية والأميركية، بل لنقل مثل الأحزاب الشيوعية الأوروبية (فالشمولية تجمع ما بين الإسلاموية والشيوعية)، التي تخلت عن قيمها الشمولية وتبنت بصدق القيم الليبرالية، حتى قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.

في اعتقادي أن التجربة الإسلاموية التركية تجربة رائدة في عالم إسلامي حائر بين ماض لا يمكن أن يعود، وعالم حديث صعب المنال، فلما لا يعطون الفرصة ونرى ما يكون؟ للمؤسسة العسكرية التركية، بصفتها حامية الدستور، الحق في أن تتدخل لو كانت هناك ممارسات مناقضة للعلمانية، ولكن قبل أن تكون هناك ممارسة من هذا النوع، فإني أعتقد أن ذلك خطأ كبير، وخرق لأسس الديموقراطية ذاتها. قد يرى البعض أن laquo;ضربة استباقيةraquo; ضرورية كي لا يحدث ما حدث في ألمانيا، عندما فاز أدولف هتلر وحزبه النازي في انتخابات عام 1933، وكان ما كان، ولكن تلك مسألة أخرى لها ظروفها الخاصة. فجمهورية laquo;فيمارraquo; كانت ضعيفة لدرجة أنها كانت لقمة تنتظر آكليها، ولم يكن هناك إلا النازيون والشيوعيون، فكان النازيون هم الأسرع في تقويض أسس جمهورية فارغة المضمون. أما في الحالة التركية فإن الوضع مختلف تماماً، حيث تمأسست العلمانية بشكل من الصعب العودة عنه.

وبالنسبة لي شخصياً، فأنا لا أتفق مع الإسلامويين في آيديولوجيتهم السياسية، ولكن ذلك لا يعني إنكار حقهم في الوجود وحقهم في ممارسة حرية الرأي والممارسة، ولكن من دون إقصاء أو نفي، ولا يبدو أن هذا هو شأن اردوغان، وغل.