خيري منصور


ما حذر منه د. محمد البرادعي هو حماقة عسكرية جديدة يمارسها مجانين جدد، يعيدنا إلى السّيرة النووية للبرادعي، الذي اشترطت كوندوليزا رايس لتجديد مهمته مالا يمكن لعالم أو ذي كفاءة مشهود لها كونياً أن يقبله، فقد أوحت رايس بأن شهادة حسن السلوك يجب أن تكون ممهورة بتوقيع أمريكي، وأن البرادعي عليه أن يتجه حيث تميل الرياح الأمريكية، حتى لو كان ثمن ذلك حرباً أخرى مدمرة.

إن ما قاله البرادعي عن المجانين الجدد يجزم بأن هناك مجانين قدامى، والجنون ليس طارئاً بأية حال على عصرنا، فقد عرفته البشرية منذ تورطت بأباطرة من طراز كاليغولا، الذي مدّ ذراعه من النافذة ليقطف القمر من شجرة السّماء كما قال! ثم عين حصانه رئيساً لمستشاريه في حقبة فريدة من التاريخ لا تنافسها إلا الحقبة النيرونية، ويبدو أن الأسوأ من حرق روما هو مطالبة أهلها بالرقص على غناء الإمبراطور ذي الصوت الأنكر من النهيق أو النعيق.

لقد كان المطلوب من البرادعي أن يوقّع على بياض وأن يحزر المزاج الأمريكي قبل أن يقرر ويتكلم ويبرئ أو يدين.. لكن الرّجل حافظ إلى حدّ كبير على أمانته العلمية، وهو الذي يشغل منصباً لا يحسد عليه، وقد لا يروق لمن منحوه جائزة نوبل مناصفة مع المؤسسة التي يرأسها أن يقول ما قاله عن أطفال بلاده وعن الجياع، وعن مجمل محاصيل العولمة في أشد تجلياتها استباحة لمصائر الأفراد والأمم.

واذا كان لكل مرحلة مجانينها، فإن مجانين مرحلة ما بعد الحداثة، وما بعد السيادة والاستقلال وما بعد التاريخ أيضاً هم من طراز آخر.

انهم لا يقيمون وزناً لأي شيء بفضل فائض الذرائعية، ولا يعفون عن لحوم الموتى ونخاع عظامهم، لأن الرّبح هو الرّهان الوحيد الذي يبرر الأساليب كلها، وكأن مجانين ما بعد الحداثة أصدروا طبعة جديدة من كتاب ldquo;الأميرrdquo; لميكافيلي. يصبح فيه التدمير مبرراً وإبادة الشعوب مجرد وسيلة مشروعة.

لقد قال البرادعي ما قاله بمناسبة الكلام عن الحرب ضد إيران، لكنه يشمل ما هو أبعد من ذلك، والمسألة برمتها مرتهنة لمنطق جديد، يبرر العدوان بأثر رجعي ويلفق الذرائع بلا أية كوابح على الإطلاق.

فقد سبق للجنرال المخدوع كولن باول أن استقال وكأنه يعتذر لنفسه أولاً عما اقترف، عندما جلس على مقعده في مجلس الأمن ليعرض أفلاماً من نوع ldquo;الكولاجrdquo; للبرهنة الميدانية على أن العراق يمتلك أسلحة تدمير شامل وبالتالي يبرر الحرب الشاملة ضده.

وقد يتساءل من يسمع البرادعي وهو يتحدث عن المجانين الجدد، من هم هؤلاء؟ وأين هم العقلاء الذين يعيشون بجوارهم ويرفضون أن يشربوا من نهر الجنون؟

إن اسماء مثل تشيني نائب الرئيس الأمريكي ورايس وزيرة خارجيته وجيتس وزير دفاعه قد ترد تباعاً في الذاكرة، لكن وراء الكواليس أسماء أخرى، فعدد الضباع التي تتربص بما سيبقى من أشلاء الفريسة كبير جداً، وقد يشمل أعراقاً وجنسيات وتجار حروب وسماسرة دماء.

لقد دشنت الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق مرحلة جديدة في تاريخ العسكرتارية، ولم يحدث منذ اسبارطة أن تم تسويغ الحرب بعد اندلاعها.

لقد قرع البرادعي جرسه الخاص، وهو ذو رنين يثير الرّعب وبشكل غير مباشر فتح ملف المجانين القدامى.. لأنه ما من مجانين جدد من دون مجانين سبقوهم وعبّدوا لهم الطريق.