ماجد كيالي

تثير المعارك الدامية والمدمرة الدائرة في مخيم نهر البارد، قضية السلاح الموجود داخل المخيمات (وخارجها)، ووظائفه والجدوى السياسية منه، على المديين القريب والبعيد. وقبل مناقشة هذه المسائل ينبغي لفت الانتباه الى عدة مسائل، ضمنها:

ان الفصائل التي ظلت تحرص إبقاء وجودها العسكري في المخيمات وخارجها، لم تعد تمارس الكفاح المسلح ضد اسرائيل، منذ زمن طويل، وهي لم تعد تقوم، من لبنان، بأي فعل من أفعال المقاومة المسلحة في مواجهة اسرائيل، لأسباب متعددة. ومعنى ذلك أن حديثنا عن السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها (في لبنان)، يتوخى الجهر بحقائق يجري حجبها عن عمد، لأغراض التنافسات الفصائلية، ولأغراض وظيفية، ودعائية، وكل هذه الأغراض لا تمت بصلة الى الغرض الحقيقي المفترض من وجود السلاح الفلسطيني في لبنان، أي مواجهة العدو الصهيوني، والدفاع عن المخيمات ضده.

وهذه الفصائل في حرصها الشديد على إبقاء تشكيلاتها العسكرية، في مخيمات لبنان، كانت استقالت تماماً من باقي الوظائف السياسية والاجتماعية والثقافية والخدمية، التي كان يفترض أن تقوم بها في اطار المجتمع الفلسطيني في المخيمات. وهكذا فإن الصرف على سلاح المخيمات، وهو ما وضح في مخيم نهر البارد (وكذا في مخيم عين الحلوة)، يفوق كثيراً الصرف على إعادة تأهيل المخيمات، وتأمين الخدمات والبنى التحتية لها، وهي كما هو معلوم مخيمات مزرية ولا تليق بالعيش، وهي كناية عن نكبة ملازمة للفلسطينيين فوق نكبة التشرد والحرمان من الوطن والهوية والحقوق التي تحيق بهم. اننا نتحدث عن السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها بعد تجربة مريرة دفع خلالها فلسطينيو لبنان ثمناً باهظاً، من أرواحهم وممتلكاتهم ومعاناتهم، من دون أن تجلب عليهم هذه التجربة أية عوائد، على صعيد حل قضيتهم من الناحية السياسية، أو على صعيد تأمين حقوقهم المدنية - الاجتماعية، كمقيمين موقتين على أرض لبنان. وكما هو معلوم فإن الفصائل الفلسطينية مجتمعة، وعلى رغم نفوذها الكبير في لبنان في السبعينات، لم تول أهمية كبيرة للحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين اللاجئين، ربما رغبة منها في استمرار توظيف قضيتهم، من منظور ضيق، لا يمت لمصلحة الوطن والشعب بصلة. ثم ان الظروف الدولية والعربية المحيطة جعلت من لبنان مجالاً للتصارع الاقليمي، وبذلك باتت مخيمات لبنان مجالاً رحباً للتنافسات والتوظيفات السياسية، ودليل ذلك الوضع الشاذ الذي جعل من مخيم عين الحلوة بؤرة للجماعات الأصولية المتطرفة والمتعصبة، وموئلا للخارجين عن القانون، وعن سلطة الدولة اللبنانية، وكلها جماعات يسهل توظيفها من قبل القوى الفاعلة في لبنان وعموم المنطقة، وهو ما يلحق أفدح الضرر بالقضية الفلسطينية، وبأحوال اللاجئين في المخيمات، كأنهم بحاجة لبلاوٍ جديدة فوق بلاواهم.

لا شك أن الخلافات الداخلية الفلسطينية بدورها تخلق أوضاعاً متوترة في مخيمات لبنان، ومشكلة الساحة الفلسطينية أنها بالغت كثيراً في التركيز على تشكيلاتها العسكرية، وأنها أغفلت كثيراً البنى السياسية والاجتماعية والثقافية، وأنها تفتقد للمأسسة والنظام وللعلاقات الديموقراطية. وبديهي أن هذه الخلافات المعطوفة على اشاعة البنى العسكرية، وفلتان السلاح، وتمجيد ثقافة العنف، ورفض الآخر، من شأنها أن تؤدي، في ظل غياب المقاومة (وهي الوظيفة الوطنية للسلاح)، الى الفوضى، والانفلاش، وغياب المرجعيات، وارتداد شحنة العنف الى الداخل (لاحظ الوضع المتفجر والمؤسف في غزة)، وهو ما حصل مراراً وتكراراً في مخيمات لبنان خصوصاً منذ العام 1983 (في البقاع وطرابلس)، مروراً بحروب المخيمات أواسط الثمانينات (في بيروت)، وصولاً للمعركة الجارية في نهر البارد بين الجيش اللبناني وما يسمى جماعة laquo;فتح الإسلامraquo;، من دون أن ننسى الأوضاع الشاذة والاشتباكات المتكررة بين الجماعات المسلحة، المنفلتة من عقالها، والمتضاربة في مشاريعها، في مخيم عين الحلوة. كذلك فالحديث عن سلاح الفلسطينيين في مناطق اللجوء والشتات، بات يقتصر على لبنان فقط، وعلى وجود جماعات عسكرية فلسطينية (وغير ذلك) على أرضه، تمارس نوعاً من السلطة والهيمنة في المخيمات، وربما خارجها، من دون مشروعية سياسية وطنية، خصوصاً بعد انتفاء صبغة المقاومة عن هذا السلاح، بنتيجة الظروف الحاصلة في لبنان، وبالأخص بنتيجة سيطرة laquo;حزب اللهraquo; على المناطق الجنوبية المتاخمة للحدود مع اسرائيل، واحتكاره منذ زمن للمقاومة.

على ضوء كل ما تقدم، وفي ظل انتفاء المقاومة، وغياب المشروعية السياسية، فالفلسطينيون، كفصائل ومجتمع مدني، معنيون بمراجعة أوضاعهم، خصوصا وظيفة السلاح. فهو ليس غاية بذاته، لا سيما لجهة رفع الغطاء عن القوى التي تتعاطاه لتوظيفهم في مهب السياسات على انواعها.

في الواقع لا شيء يجعل من فلسطينيي لبنان استثناء بين كل الفلسطينيين في مناطق اللجوء بالنسبة لحمل السلاح، خصوصاً في ظل المعطيات السياسية السائدة، الفلسطينية والعربية والدولية. طبعاً ثمة من يبرر السلاح الفلسطيني في لبنان، بضرورة ايجاد نوع من الرد على اعتداءات اسرائيلية محتملة، بنتيجة أحداث معينة، ولكن هل يستطيع الفلسطينيون فعلاً حماية أنفسهم بالسلاح الذي يمتلكونه، في مواجهة طائرات ومدفعية وصواريخ اسرائيل. وما هو مصير الدولة اللبنانية إذا كان ثمة تسليح ذاتي لكل الجماعات في لبنان؟ ثم ألا يضع ذلك الفلسطينيون في احتكاك مع باقي الجماعات اللبنانية، على تفاوتاتها وتلاوينها؟ أيضاً ثمة من يبرر السلاح الفلسطيني في المخيمات بضرورة الأمن الذاتي تخوفاً من التحولات الداخلية اللبنانية. وبرغم من مشروعية ذلك، على ضوء التجربة الفلسطينية في لبنان، فإن وجود السلاح الفلسطيني في لبنان لا يقلل من هذه المخاوف والاحتكاكات الفلسطينية - اللبنانية، وانما هو يغذيها ويستفزها، خاصة أن هذا السلاح سيكون عرضة للتوظيفات والحسابات الداخلية والاقليمية. كذلك فثمة من يرى إمكان مقايضة سلاح المخيمات بالحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان. ورغم مشروعية هذه الحقوق وأهميتها للفلسطينيين ولسلامة العلاقات الفلسطينية - اللبنانية، لكن هكذا مقايضة لا تبدو في محلها، في الظروف الراهنة، لأن هذه الحقوق تحتاج الى مجال ثقة متبادلة، كما تحتاج الى عنوان سياسي، ولا يمكن أن تأتي تحت الضغط ولا سيما في الظروف اللبنانية الراهنة.

على ذلك، فثمة ضرورة لاخراج السلاح الفلسطيني من لبنان من دائرة المزايدات والتنافسات والتوظيفات، التي لا تخدم القضية الوطنية للفلسطينيين، والتي تشوه عدالة نضالهم، وتضر بهم كشعب. ويمكن للفصائل التي تحبذ السلاح أن تركز جهودها على المقاومة ضد الاحتلال، وأن ترحم الفلسطينيين في لبنان، في ما تبقى لهم من مخيمات. وبالنسبة لقيادة الشعب الفلسطيني، في المنظمة والسلطة، فهي معنية بطي صفحة الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، والتنسيق مع الدولة اللبنانية بهذا الشأن، وتركيز جل اهتمامها على رعاية وضع فلسطينيي لبنان، وتأمين الخدمات لهم، والتخفيف من معاناتهم ومأساتهم، وتعزيز ارتباطهم بكيانهم السياسي، وفتح نقاش مع الدولة اللبنانية بشأن منحهم الجنسية الفلسطينية، لدفع شبهة التوطين عنهم، وضمان تمتعهم بحق المقيم، مثلهم مثل المقيمين من أي جنسية أخرى. أما الدولة اللبنانية فمسؤولة عن وضع حد لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين، من خلال منحهم الحقوق المدنية والاجتماعية، التي حرموا منها طوال وجودهم في لبنان منذ ستة عقود، ويكفي أن هؤلاء محرومين من الوطن والهوية، ما يجعلهم في دائرة الإحباط واليأس، وما يدفعهم دفعاً لدوائر التعصب والتطرف والتوظيف. لذلك ثمة أهمية للتنسيق بين القيادة الفلسطينية والدولة اللبنانية بشأن وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بعيداً عن المزايدات والابتزازات المتعلقة بالتوطين أو الحق بالمقاومة، أو غيرها من الشعارات التي تبتغي أشياء أخرى غير مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.