كريم عبد

خلال أربعين سنة، واجه العراقيون ديكتاتورية البعث وطغيانه مقدمين مئات آلاف الشهداء والضحايا في ملحمة كفاحية قل نظيرها في تاريخ الشعوب المعاصرة. ولكن ماذا كانت النتيجة وأين أصبحنا الآن؟! وكيف ولمصلحة من تم احتواء هدف laquo;الدولة المدنية والنظام الديموقراطيraquo; بصفته الحل الشرعي والممكن لأزمة الدولة والمجتمع في العراق، بهدف خطير ومشبوه ومغاير يعتمد على مقولة زائفة نتيجتها النهائية تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، أي تقسيم السلطة بين laquo;المكونات الأساسية للمجتمع العراقي ndash; الشيعة والسنة والأكرادraquo; والذي على أساسه تم تكريس مبدأ laquo;المحاصصة السياسيةraquo;، وهو بدعة معوّقة بل مناقضة للمشروع الديموقراطي. فهي تنفي مفهوم المواطنة ومبدأ تكافؤ الفرص من أساسه، حيث أصبحت الدولة غنيمة لهذه الأحزاب بعد أن كانت غنيمة لحزب البعث وحده، وهذا معنى القولة التي يرددها العراقيون laquo;كنا محكومين بحزب بعث واحد وأصحبنا الآن مع عشرين بعثاًraquo;! وعلى هذا الأساس تُدار الأمور منذ أربع سنوات فتنتقل من سيء إلى أسوأ كدليل واقعي على أن هذه الأحزاب لا تمثل حقيقة ومصالح تلك المكونات التي تدعي تمثيلها. بل إن ما حدث ويحدث هو العكس تماماً!

وإذا كان الموضوع الكردي يحتاج إلى معالجة خاصة لا يتسع لها المجال هنا، فإن العراقيين في المحافظات السنية - أي الغالبية التي لا ناقلة لها في السياسة ولا جمل كبقية المحافظات ndash; كانت وما تزال ضحية الأوضاع السياسية الشاذة. ففي حقبة صدام الذي استعمل القناع الطائفي ليغري الكثير من شباب تلك المحافظات بالبزة العسكرية والسكن في بغداد، وليستخدمهم كأداة لمغامراته وحروبه الداخلية والخارجية كي يدفعوا ثمن استمراره في الحكم، كان أن استيقظوا على دبابات الاحتلال الذي حل laquo;قوات الحدودraquo; دون مبرر أو ضرورة، ليسمح لجحافل الإرهابيين بغزو المناطق الغربية والإستيطان فيها، حيث عاث الإرهابيون بالأرض فساداً، فكانت مأساة أهالي الفلوجة والمآسي الآخرى المتتالية، بينما أوغل الإرهابيون والبعثيون في بغداد والمحافظات الأخرى ليرتكبوا المزيد من الجرائم المروعة التي لا مثيل لها حتى في عصور الهمجية الموغلة في التاريخ.

لقد ابتُليت المحافظات السنية بالإرهابيين من جهة وبأحزاب تم تركيبها على عجل من قبل مغامرين جدد، هم في غالبيتهم ليسوا من الشخصيات المقبولة في تلك المحافظات، ولذلك لم يكونوا مهتمين بشؤونها الخدمية والأمنية بقدر اهتمامهم بالمحاصصة وارضاء المحتلين للحصول على أكبر حصة ممكنة في الدولة. ولهذا قامت عشائر المنطقة التي دفعت الثمن غالياً، بتشكيل مجالس انقاذ من أبنائها لمواجهة الإرهابيين، دون أن تحصل على دعم حقيقي أو أفق سياسي يمكّنها من قول كلمتها. وبسبب سياسات الاحتلال الملتوية ومواقف laquo;حكومة المكونات الأساسيةraquo; التي لا تهتم إلا بتوزيع المناصب، كان على الأهالي أن يدافعوا عن أنفسهم بانفسهم وكأن لا حكومة عراقية موجودة ولا مسؤولية دولية تحمّل قوات الاحتلال الاميركية مسؤولية حماية الناس في المناطق المحتلة وفقاً للقانون الدولي واتفاقيات جنيف!

لقد حدثت مآسٍ كثيرة في المحافظات الغربية وفي الأحياء السنية من بغداد، لكن laquo;المكون السياسي السنيraquo; لا يتحدث إلا عن الأحداث التي تعزز حصته في السلطة أو تزيدها، وكمثال، لنتذكر مأساة عائلة آل الخربيط المفجعة، ولمن لا يعرف هذه العائلة فهي من الوجهاء الأساسيين في محافظة الأنبار أي من شيوخ الدليم، وهي عائلة رجال أعمال كبار لم يتحمل أحد منهم مسؤوليات سياسية لا في النظام السابق ولا اللاحق. وبعد أسابيع من سقوط النظام تعرض البيت الرئيسي لهذه العائلة إلى قصف رهيب من قبل الطيران الاميركي أدى إلى مقتل أكثر من عشرين انسانا بمن فيهم أطفال ونساء! كانت هذه المأساة الرهيبة أولى خطايا الاحتلال وكان عذر الاميركان أسوأ من فعلهم، فقد ادعوا بأنهم قصفوا البيت لأن معلومات وصلتهم مفادها laquo;أن برزان التكريتي مختفٍ فيهraquo;!

لقد كانت هذه الخطيئة أمتحاناً للأحزاب العراقية عموماً والسنية خصوصاً لأن أحداً لم يتحدث عنها لحد الآن، وكأن الاحتلال كان يريد جس نبض هذه الأحزاب التي لزمت الصمت ومازالت داخل البرلمان وفي الحكومة، فشجع هذا الصمت الغريب المحتلين على ارتكاب المزيد من الجرائم المنافية للقوانين الدولية والاخلاقية، لأن هذا النمط من الأحزاب التي لا تمثل سوى مصالحها الضيقة، يعرف بالسليقة أن تبني مثل هذه القضايا ومتابعتها محلياً ودولياً كما هو مفترض، سيؤدي إلى إخراجها من laquo;لعبة المحاصصةraquo; السياسية. لذلك لزمت وتلزم الصمت ويا له من صمت مريب!

لكن ماذا عن العراقيين في المحافظات الشيعية، أي محافظات الفرات الأوسط والجنوب التسع، الذين دفعوا الضريبة الباهظة لمقاومة ديكتاتورية صدام خلال الأربعين سنة الماضية، وهل حقاً أن الأحزاب الدينية تمثل مصالحهم وتحرص على مستقبلها وخاصة مشروعهم الأساسي في المساهمة بإقامة الدولة المدنية والنظام الديموقراطي لتحقيق العدالة في عموم العراق؟!

ماذا قدمت لهم laquo;قائمة الإئتلافraquo; بما فيها حزب الفضيلة والتيار الصدري، ممن تبنوا وكرسوا مقولة laquo;المكونات الأساسيةraquo; المزعومة؟ ماذا قدمت لهم وقد وصلت دائماً بأصواتهم وادعاء تمثيلهم؟!

بأصوات أهل الجنوب والفرات الأوسط شكلت قائمة الإئتلاف الحكومي الحالية بعد أن امتلكت الثقل السياسي الأكبر في البرلمان، فماذا كانت انجازاتهم خلال السنوات الأربع الماضية؟

أولاً، لا بد من القول بأن الأحزاب الدينية وفي مقدمتها حزب الدعوة، قدمت الكثير من الشهداء الأبرار خلال مقارعتها لديكتاتورية صدام، ثم بسبب نشاطات هذه الأحزاب أصبحت مهنة أجهزة النظام السابق الأساسية هي التنكيل بأهل الجنوب والفرات الأوسط وتخريب حياتهم، أي المزيد من الشهداء والمقابر الجماعية بذريعة دعم هذه المناطق للأحزاب الدينية! والسؤال هو: ماذا قدمت وكيف تعاملت أحزاب الإئتلاف مع مئات الآلاف من أرامل وأيتام الشهداء الذين فدوا العراق بدمائهم الطاهرة؟!

إذا كان الجعفري أول رئيس لـ laquo;مجلس الحكمraquo;، فإن عبد العزيز الحكيم كان آخر رؤسائه، وخلال فترة مجلس الحكم تم تمرير الكثير من القوانين والاجراءات ولكن ليس بينها أي ذكر لحقوق مئات الآلاف من أرامل وأيتام الشهداء الذين أوصلوا الجعفري والحكيم إلى سدة الحكم!

وتكرر هذا التغافل خلال حكومة الجعفري الإنتقالية أيضاً، لكنه، وقبيل أيام من الإنتخابات العامة الأخيرة، اتخذ قراراً برفع أسعار المحروقات ولم يُعلن عن ذلك إلا بعد إجراء الإنتخابات! لأن القرار الجائر ذاك أدى إلى إرباك الأسواق العراقية ورفع عموم أسعار المواد والخدمات على حساب غالبية العراقيين المفقرة بفضل سياسات النظام السابق ثم الاحتلال وحكومة المكونات الأساسية المزعومة. وكانت هذه خديعة مريرة أرادت حكومة الجعفري سترها بأكذوبة أمرّ منها، حيث ادعت أن هذا القرار اتخذ لتمويل صندوق دعم العوائل المعدمة! في حين أنه اتُخذ خضوعاً لأوامر صندوق النقد الدولي! لقد نفذ الجعفري شروط صندوق النقد الدولي لكنه لم يلتفت لاستغاثات عوائل الشهداء التي تشبثت بالذاهب والقادم دون جدوى.

وخلال الفترة التي أعقبت الانتخابات شارك الإئتلافيون بفعالية في كتابة الدستور الجديد، حيث كان أحد طموحاتهم التي تم إفشالها اعتبار اللغة الفارسية إحدى اللغات الرسمية في العراق!! لقد تذكروا اللغة الفارسية وبذلوا الجهود من أجل فرضها على العراقيين لكنهم تناسوا قانون حماية عوائل الشهداء! وعوضاً عن هذا الجحود الذي ما بعده جحود، أصبح بعض معممي الإئتلاف يتكرم على عوائل الشهداء بـ laquo;العطايا والمكرماتraquo; على طريقة صدام حسين وكأنهم يريدون أن يُبقوا العراقيين في حالة فقر وحرمان كي يظلوا يتصدقون عليهم، أي تكريس ثقافة المذلة والمهانة!

وإذا إنتقلنا من الشهداء إلى الأحياء أي الغالبية العراقية الممتدة من البصرة إلى بغداد والتي تزعم أحزاب الإئتلاف تمثيلها، فقد قامت هذه الأحزاب بإقصاء وتهميش آلاف الكوادر العلمية والأكاديمية والإدارية والتربوية والتقنية والثقافية التي تزخر بها هذه المنطقة، وتم الإستعاضة عنهم بالجهلة وخريجي المدارس الإبتدائية وأصحاب الشهادات المزورة والموتورين والمشبوهين، فأصبح هؤلاء وزراء ووكلاء وزارات ومحافظين ومدراء تربية، فشهد العراق بفضل هذه السياسة التي أصبحت رائحتها تزكم الأنوف، ظواهر ليس لها مثيل في تاريخ دولته المعاصرة. فمعدلات النجاح في المدارس تتراوح بين الصفر والثلاثين في المئة وهذه تدخل في باب صدق أو لا تصدق، حتى أصبحت أسئلة الامتحانات العامة تباع بالأسواق بينما تم اخضاع الهيئات التدريسية لابتزاز صبيان الميليشيات وابتذالهم المعروف! في حين تحولت مجالس المحافظات، التي سداها ولحمتها من الأحزاب الدينية، بؤراً للفساد المالي والإداري وشراء الذمم، فتمت إعادة إنتاج كل أوساخ وعاهات النظام السابق من خلالها، حيث تفننت هذه المجالس بنهب المال العام بمختلف الطرق، وليست فضائح تهريب النفط والشبكة الرهيبة التي تُديرها، أو فضيحة محافظة البصرة بالتعاقد مع شركة كويتية لتنظيف شوارع البصرة مقابل سبعة ملايين دولار اميركي سوى فاصلة في كتاب الرشاوى والعمولات الذي ثَقُلَ ولم يعد بوسع أي ضمير حي أن يتحمله سوى مقاولي الأحزاب الدينية المتخرجين من مدرسة الأجهزة الإيرانية.

وفي عراق الرافدين والخيرات وبدل الاقتصاد الحر وتنشيط القطاع الخاص، أصبحت laquo;البطاقة التموينيةraquo; وصمة عار في جبين النظام الجديد الذي يريد ربط مصائر العراقيين واخضاعهم جماعياً لأوامر الدولة وعطاياها، بصفتهم شحاذين لا مواطنين، وعبر بطاقة العار هذه تم تكريس تخلف الزراعة والصناعات المحلية، أي إنعدام التجارة الداخلية بالنتيجة وتمويت سوق العمل لمصلحة التجارة الخارجية حيث انه من خلال صرف أكثر من عشرين مليار دولار سنوياً على مواد هذه البطاقة، تتم الصفقات المشبوهة بين وزارة التجارة وبين شركات الاستيراد التابعة لأحزاب المكونات الثلاثة والتجار المحليين والدوليين المرتبطين بها. وبعلم وتدبير ومحاصصة مع الوزارت المعنية الأخرى لم يعد للزراعة والصناعات المحلية حضور يذكر أمام منافسة البضائع المستوردة. وإذا أشرنا إلى غزو البضائع الإيرانية الكاسح للأسواق العراقية أصبحت الأسباب والدلالت والشبهات واضحة.

وفي بلاد المهندسين والعلماء والخبراء ما زال العراقيون يعانون من أزمة الماء والكهرباء التي حولت حياتهم إلى جحيم دون أن يرف لحكومتنا جفن أو ضمير وكأن الأمر لا يعنيها!

وإلى جانب المقولات الزائفة التي اعتمد عليها سياسيو laquo;العراق الجديدraquo;، وفي مقدمتها مقولة المكونات الثلاثة المُكرِّسة للتقسيم الطائفي، بدت الأحزاب العراقية الحالية الرأسمال السياسي الفاسد للمجتمع.

وقد أثبتت الوقائع الدامية والمآسي والخراب الممتد في طول البلاد وعرضها، أن العجز الفكري والأخلاقي هو القاسم المشترك بين الأحزاب السنية والشيعية، في حين تتفرج الأحزاب الكردية كي تستثمر المآسي والخراب لمصلحتها، فهي تتصرف وكأنها طرف في الصراع الدولي على أشلاء العراق وليست كطرف عراقي مسؤول عن مصالح العراقيين ومستقبل دولتهم، مؤكدة أن مواقفها تعود لمصلحتها الحزبية الضيقة وليس لمصلحة الشعب الكردي، لأن أحداً لن يخرج رابحاً من هذه اللعبة الجهنمية السائدة الآن.

فالعجز الفكري والأخلاقي لهذه الأحزاب أدى إلى إنتشار وباء الطائفية في النسيج الاجتماعي العراقي، فحَلت الميليشيات محل السياسة وقيم المجتمع ومنطق الأشياء. ووجود الميليشيات يعني ضمناً الإلتجاء للدول الأخرى القريبة والبعيدة من أجل المال والسلاح، أي الإرتهان السياسي لتلك الدول التي أصبح العراق بالنسبة لها ساحة لتصفية الحسابات، ومستقبله في مهب الريح! ولكن ما هو البديل؟! هذا هو السؤال الذي يردده العراقيون في الداخل والخارج الآن.


كاتب عراقي.