شيمون بيريز... الخاسر الأزلي ينجح أخيراً!

د. عبد الوهاب المسيري


بعد ما يزيد عن نصف قرن في خضم العمل السياسي، وبعد ثماني معارك انتخابية انتهت جميعها إلى الفشل، استطاع شيمون بيريز أخيراً أن يتذوق طعم النجاح، وأن يصل إلى سدة الرئاسة في الدولة الصهيونية ليكون الرئيس التاسع، خلفاً للرئيس السابق موشيه كاتساف، الذي نُحي من منصبه في يناير 2007، بعد ثبوت ضلوعه في فضائح مالية وأخلاقية، وتولت مهام الرئاسة بصفة مؤقتة رئيسة الكنيست quot;داليا إيتسكquot;.

ولم يكن وصول quot;بيريزquot; إلى هذا المنصب، رغم طابعه الشرفي الخالي من أية سلطات حقيقية، أمراً سهلاً أو مضموناً، إذ جاء في أعقاب اقتراع في الكنيست، يوم 13 يونيو 2007، تنافس فيه اثنان آخران إلى جانب بيريز، وهما رؤوبين ريفلين (عن quot;حزب الليكودquot;) وكوليت أفيطال (عن quot;حزب العملquot;). وفي الجولة الأولى للاقتراع، حصل quot;بيريزquot; على 58 صوتاً، مقابل 37 صوتاً حصل عليها quot;ريفيلينquot; و21 صوتاً حصلت عليها quot;أفيطالquot;، بينما امتنع ثلاثة أعضاء عن التصويت وأُبطل صوت عضو آخر. ولما كان القانون ينص على ضرورة حصول الفائز على أصوات أكثر من نصف أعضاء الكنيست (أي ما لا يقل عن 61 صوتاً)، فقد أُجريت جولة ثانية للاقتراع، انسحب خلالها quot;ريفيلينquot; وquot;أفيطالquot;، ليظل quot;بيريزquot; وحده في الحلبة ويفوز بتأييد 86 نائباً، مقابل اعتراض 23 نائباً وامتناع ثمانية عن التصويت وإبطال أصوات ثلاثة نواب.

وبعيداً عن حسابات الأصوات داخل الكنيست، فقد جاء الإعلان عن ترشح quot;بيريزquot; لهذا المنصب ثم فوزه به وسط موجة من الانتقادات الحادة التي اتسمت في معظمها بالسخرية اللاذعة من شخصية quot;بيريزquot; وتطلعاته وكفاءته، رغم أنه آخر الباقين على الساحة السياسية من الرعيل الأول لمؤسسي الدولة الصهيونية.

ويمكن تمييز اتجاهين رئيسيين في تعليقات المحللين الإسرائيليين على اختيار quot;بيريزquot; رئيساً، في ختام مسيرة طويلة من الإخفاقات. وأول هذين الاتجاهين يركز على شهوة quot;بيريزquot; التي لا تعرف حدوداً لتولي أي منصب قيادي، حتى ولو كان منصباً شكلياً مثل منصب رئيس الدولة، الذي تقتصر صلاحياته على العفو عن السجناء وتكليف رئيس الكتلة الفائزة بأكبر عدد من الأصوات في انتخابات الكنيست بتشكيل الحكومة، فضلاً عن حضور بعض المراسيم الاحتفالية في المناسبات الرسمية. ولدى زيارة رؤساء دول أخرى. أما الاتجاه الثاني فيركز على ما يمثله quot;بيريزquot; من أزمة الحكم في الدولة الصهيونية، والتي هي امتداد لأزمات أخرى أعمق على المستويات السياسية والحزبية والأمنية.

ويعبَّر ناحوم برنياع (صحيفة يديعوت أحرونوت، 7 مايو 2007) أصدق تعبير عن الاتجاه الأول، إذ يرسم صورة هزلية لبيريز، ذلك الخاسر الأزلي الذي فشل ثماني مرات في الانتخابات على منصب رئيس الحكومة ومنصب رئيس الدولة ثم منصب رئيس quot;حزب العملquot;، قبل أن ينسحب منه وينضم إلى أرييل شارون في quot;حزب كاديماquot; الذي أسسه إثر انشقاقه عن quot;حزب الليكودquot; في نهاية عام 2005، وإن كان قد تولى رئاسة الحكومة مرتين، دون انتخابات، وأولاهما بين عامي 1984 و1986، عندما كانت رئاسة الحكومة بالتناوب بين quot;حزب الليكودquot;، بزعامة إسحاق شامير آنذاك، وquot;المعراخquot; (العمل حالياً)، بينما كانت المرة الثانية بين عامي 1995 و1996 إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين.

ويبدأ الكاتب مقاله بعبارة ساخرة، تطالب بإعطاء quot;بيريزquot; الحكم ثلاث سنوات، لكي تدخل دولة إسرائيل موسوعة الأرقام القياسية، ثم يمضي قائلاً: quot;يؤمن بيريز بأنه إنسان فذ وظاهرة غير طبيعية. والواقع أنه يقلل من قيمة نفسه، فهو ليس فريداً في نوعه فقط بل في كل الأنواع، وفي جميع فئات التصنيف. فعلى سبيل المثال، عرفت إسرائيل على مر السنين كثيراً من المرشحين لمنصب رئيس الحكومة وغير قليل من المرشحين لمنصب رئيس الدولة، إلا إن بيريز هو الوحيد الذي نافس في الوقت نفسه على المنصبين، والأكثر مدعاةً للدهشة أنه يفعل ذلك من غير أن يعرض ترشحه لأي منهماquot;.

ثم يتطرق الكاتب إلى سجل بيريز السياسي، ويبدأ بشهادته أمام quot;لجنة فينوغرادquot;، التي شُكلت في أعقاب quot;حرب لبنان الثانيةquot; في عام 2006 لتقصي أوجه القصور التي أدت إلى فشل الدولة الصهيونية في تحقيق أي من أهداف عدوانها على لبنان. ويرى الكاتب أن الإجابات التي قدمها بيريز على أسئلة أعضاء اللجنة ما هي إلا quot;محاولة سخيفة لامساك العصا من طرفيها: أي ليظهر بمظهر الحكيم بعد انتهاء الحدث، وليثبت طاعته لرئيس الحكومة أيضاًquot;. ويؤكد الكاتب أن أقوال بيريز المراوغة quot;تشهد بجهله فيما يتعلق بالمشكلات العسكرية التي ظهرت خلال الحربquot;.

وينتقل الكاتب إلى جانب آخر في مسيرة quot;بيريزquot; السياسية، أي مسلكه كرئيس للحكومة، وهو مسلك يطلق عليه صفة quot;الإسفافquot;. فقد كان quot;بيريزquot; هو الذي اتخذ القرار باغتيال المهندس يحيى عياش (مؤسس حركة quot;الجهاد الإسلاميquot; في فلسطين) في يناير 1996، متصوراً أن الاغتيال سيمثل ضربةً قاصمةً لحركات المقاومة الفلسطينية، إلا إنه أدى على النقيض من ذلك إلى تصاعد المقاومة واتساع نطاقها ونجاحها في تنفيذ عمليات موجعة ضد الاحتلال الصهيوني. كما كان بيريز هو صاحب قرار العدوان على لبنان في عام 1996، فيما عُرف باسم quot;عملية عناقيد الغضبquot;، والتي انتهت بمذبحة مروعة في بلدة قانا بجنوب لبنان راح ضحيتها نحو 100 من المدنيين العزل الذين كانوا يحتمون في مبنى تابع للأمم المتحدة، وهي مذبحة أثارت موجة عارمة من السخط على الدولة الصهيونية وقيادتها في الداخل والخارج معاً.

ويختتم الكاتب مقاله بنفس النغمة الساخرة التي بدأ بها، فيقول:quot;يعيش بيريز حالياً مرحلة المسخرة من حياته المهنية... فهو يحتقر كل شيء سوى نفسه. وقد تكون هذه وصفة جيدة للبقاء في حلبة السياسة، ولكنها لا يمكن أن تحقق البناء المطلوب في أعقاب الحرب. وأياً ما كان الأمر، فلابد أن يتأثر المرء بشهوة بيريز، فليس هناك منصب لا يشتهيه، وليس هناك تكريم يترفع عنهquot;.

أما الاتجاه الثاني في التعليقات على وصول بيريز إلى منصب الرئاسة، فيعبر عنه أوري أفنيري (موقع كتلة السلام quot;جوش شالومquot;، 16 يونيو 2007)، والذي يسخر هو الآخر من شخصية بيريز ومن قدرته على تحقيق أي إنجاز يُذكر من خلال منصبه الجديد، ولكنه يرى أن هذا العجز لا يقتصر على بيريز وحده، بل يمتد إلى الحكومة الصهيونية بأسرها، ولاسيما رئيسها إيهود أولمرت ووزير دفاعه الجديد إيهود باراك، ويصل إلى نتيجة مؤداها أنه quot;في الوقت الراهن لا توجد سياسة، ولا توجد حكومة بمقدورها أن تضع سياسةquot;.

وفي معرض السخرية من رئيس الدولة الجديد، يستعيد أفنيري مقالة له منذ سنوات وصف فيها بيريز بأنه مثل quot;سيزيفquot; في الأسطورة اليونانية القديمة، والذي كُتب عليه أن يحمل صخرةً هائلة ويصعد بها جبلاً، وكلما أوشك على الاقتراب من القمة ألقى به ثقل الصخرة إلى القاع مرة أخرى ليعاود محاولاته دون جدوى، وذلك في إشارة إلى فشل بيريز في جميع الانتخابات التي خاضها. ويلخص الكاتب وضع بيريز حالياً، فيقول:quot;ربما يشعر quot;بيريزquot; الآن بالخيلاء بعد أن وصل إلى القمة، ولكن واحسرتاه، لأنه لن يجد صخرة صلبة يستطيع أن يقف عليها. فمنصب الرئيس بلا مضمون وبلا صلاحيات. وغاية الأمر أنه سياسي لا قيمة له في منصب لا قيمة لهquot;.

وفي هذه العبارة الموجزة البليغة ما يغني عن أي قول آخر.

والله أعلم.