رضوان جودت زيادة
إن دراسة عملية صنع القرار داخل نظام سياسي ما، تكشف لنا حدود الدور الذي تلعبه المؤسسات القانونية في الحياة السياسية والاقتصادية للمجتمع، ومدى فاعلية هذه المؤسسات على أرض الواقع على الرغم من وجودها دستورياً وقانونياً وهو مالا تكفه لنا الدراسات السياسية المقارنة أو الامبريقية، وتظهر لنا أيضاً مدى استقرار هذه المؤسسات وقدرتها على الاستجابة للأزمات الداخلية والخارجية بحيث يتم استيعابها وحلّها ضمن أطرها القانونية وبأقل الخسائر السياسية والاقتصادية الممكنة.
كما أن معرفة صنع القرار يعطي مؤشراً توجيهياً ذا دلالة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والإطار الذي تتعامل من خلاله لمنظور علاقاتها مع دول الجوار ثم علاقاتها الإقليمية والدولية. كما وتتداخل عملية صنع القرار بدور النخب الفكرية والسياسية والعسكرية وتكوينها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وتتداخل كل هذه العوامل في خياراتها السياسية والاقتصادية التي تعمل عليها وتطبقها.
إن دورالمؤسسة التشريعية يعد حاسماً في صنع القرار، ذلك أنه يمثل الصلة بين النخبة الحاكمة والشعب، لكنه ومنذ استلام حزب البعث السلطة في سوريا عام 1963، فإنه لم يكن للبرلمان أي دور في الحياة السياسية، لقد اقتصر دوره على مصادقة القوانين المطروحة عليه من قبل الحكومة، كما أنه لم يسحب الثقة من أي حكومة أو يعترض أو يهزم أي مشروع قانون للحكومة ولذلك ليس من المستغرب أن تكون نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية حافظت على مستويات متدنية على العموم إذ لم تتعد 15 في المئة في جميع الانتخابات، وفي الحقيقة لم يكن الرئيس حافظ الأسد ليطلب من البرلمان أكثر من معنى الإكساء القانوني والتشريعي الرسمي الذي يقتضي وجود برلمان في النظام الجمهوري الرئاسي البرلماني.
وكذلك لم يمارس البرلمان مهامه الرقابية على الحكومة، أو يشرف على إدارة القضايا المهمة أو السياسية، لقد حافظ فقط على ممارسة دور لا يتعدى الأداء الإداري والخدمي، وحسب الدستور السوري فإن رئيس الجمهورية يقوم باختيار رئيسها ووزرائها، وهي تؤدي اليمين الدستوري أمامه، كما أنها ليست بحاجة الى مجلس الشعب لمنحها ثقته أو سحبها منه. ولذلك حافظ أعضاء البرلمان البعثيون منهم والمستقلون على نمط رتيب من تكرار الأداء الدوري المتمثل في مناقشة القوانين التي تقدمها الحكومة إليه ثم تصديقها.
ومع مجيء الرئيس بشار الأسد فإنه لم يدخل أي تغييرات على القوانين الناظمة لانتخابات مجلس الشعب أو يجري أي تعديلات على دوره وأدائه، ولذلك فإن المشاركة في الانتخابات التشريعية التي عقدت في عهد الرئيس بشار الأسد في 2 آذار 2003 كانت في أدنى نسبها إذ لم تتعد الـ10% حسب إحصاءات غير رسمية وتكرر الأمر ذاته مع الانتخابات التشريعية لعام 2007 التي لم تتعد النسبة فيها 6%، إن النسبة المتدنية جداً من المشاركة في الانتخابات تعكس فقدان الثقة ليس بالممارسة الانتخابية وتأثيرها فحسب، إنما يتعدى ذلك الى انعدام الثقة في النظام السياسي وقدرته على التعبير على المصالح الشرعية والتمثيلية لأكبر عدد من السوريين.
أما دور مؤسسات المجتمع المدني في صنع القرار فإن ذلك يعد من المداخل النظرية الوجيهة التي اعتمدت لتفسير quot;التسلطيةquot; في سوريا، خصوصاً لدى قراة دور المنظمات الشعبية، فقد حاول حزب البعث ومنذ استلامه السلطة في عام 1963، أن ينظم المجتمع وفق أسس وظيفية، أي أن ينظم القطاعات الفعالة والمهمة سياسياً في مؤسسات نقابية تعتبر عملياً رديفة للنظام عملياً وهي تهدف بشكل رئيسي الى تدجين الاحتجاجات الشعبية عبر تنظيمها في مؤسسات شبه رسمية يكون للنظام فيها دور الموجه والمحدد لأهدافها ونشاطاتها الرئيسية.
ولذلك جرى تأسيس منظمات جديدة لهذا الغرض أولاً، ثم تمت عملية تحويل المنظمات الموجودة سابقاً لإنجاز الغرض نفسه، إن عمل هذه المنظمات الشعبية (طلائع البعث ـ اتحاد شبيبة الثورة ـ الاتحاد الوطني لطلبة سوريا ـ اتحاد الفلاحين ـ اتحاد العمال ـ الاتحاد النسائي العام..) هو عمل ثلاثي الجوانب تمثيلاً وتعبئة ورقابة، فلسوف تضمن هذه المنظمات أولاً أن المصالح المشروعة، ولا سيما الهموم الاجتماعية والثقافية، لقطاعات المجتمع الوظيفية ستكون ممثلة في النظام السياسي، والقيادة السياسية هي التي ستقرر بالطبع ماهية المصلحة الوطنية العليا أي من مصالح القطاعات الاجتماعية هي التي يجب اعتبارها مشروعة، كما أن هذه المنظمات ثانياً هي التي ستعبء القطاعات الخاصة بها في المجتمع خلف النظام بغية تحقيق quot;أهداف الثورةquot;، وهي التي ستعمل على تطوير القدرات الإنتاجية وتنفيذ البرنامج السياسي العام للدولة، وثالثاً وأخيراً فإن هذه المنظمات هي الأدوات لإقامة رقابة اجتماعية على هذه القطاعات واحتوائها سياسياً.
هذا الدور الرقابي التأطيري لكل مجالات الحياة انعكس بشكل أكيد على حياة المجتمع المدني في سوريا ودور المنظمات غير الحكومية فيه، إذ تظهر الخارطة التفصيلية لمؤسسات المجتمع المدني أن هناك فقراً كبيراً على المستوى الكمي فيما يتعلق بعدد الجمعيات الأهلية والخيرية والمنظمات غير الحكومية، ويعود السبب الرئيسي في ذلك الى عوائق قانونية أو بالأحرى سياسية ـ أمنية هي التي تمنع من تأسيس جمعيات ومنظمات مدنية ذات غايات مختلفة، وإذا كانت سوريا تعد من أوائل الدول المبادرة عربياً في تأسيس الجمعيات والمنظمات الأهلية فإنها اليوم تكاد تكون الأفقر في عدد هذه المنظمات، إذ لا يتجاوز عدد الجمعيات والمنظمات غير الحكومية 750 منظمة وجمعية فقط.
لقد قام النظام السياسي السوري ومنذ ولادة quot;الجمهورية الثالثةquot; في عام 1963، على ثلاثة وجوه تشكل الهرم الذي تنتهي وجوهه الى موقع الرئيس الأسد، هذه الوجوه الثلاثة تشكل بنية التسلطية السورية وفي الوقت نفسه تشكل سلسلة من أجهزة الأمان بحيث تمنع بعض أجزاء النظام من الخروج ضد قيادته كما أنها تعطي النظام الكساء الشرعي والقانون من خلال إنشاء المؤسسات القانونية التشريعية والسياسية المختلفة. ولما كانت هذه المؤسسة القانونية قد حكمت بإطار طويل ومعقّد من البيروقراطية مما خلق داخلها وحولها شبكة من الولاءات والعلاقات الشخصية الزبائنية والتي لعبت دوراً رئيسياً في المحافظة على النظام وفي النهاية فإن هذه الشبكات هي ما يمنح الملاط الضروري للصلة بين أوجه الهرم الثلاثة.
إن البنية الهرمية للنظام أعطت موقع الرئيس أو بالأحرى قام هو ببناء هذه التركيبة لتعطيه دستورياً وقانونياً وواقعياً موقع الأفضلية المطلقة التي لا ينازعه فيها موقع آخر، إن التهديد لموقع الرئاسة انحسر تماماً مع نهاية أزمة الثمانينات عندما استطاع الأسد نفسه إعادة ترتيب الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية التي شكّلت تهديداً لزعامته لصالح موقع الرئيس.
لقد حافظ الرئيس بشار الأسد على سمات النظام كما ورثه عن أبيه، خصوصاً على بنيته الهرمية التي يحتفظ فيها الرئيس بالموقع المهيمن، ولذلك حتى ولم يستطع بشار الأسد أن يأخذ عن أبيه سماته على الفور، فإن الموقع الرئاسي يسمح له بسلطة مطلقة على كافة مؤسسات الدولة الأخرى ولن يمكنه من منافسة نفوذه أو حتى منافسته، إن ذلك يصح في حالة واحدة هي اختلال ميزان القوى بشكل كبير لحساب المؤسسة العسكرية أو الأمنية وذلك يحتاج الى وقت طويل لإعادة بناء الولاءات بشكل جديد قائم على انحسار موقع الرئيس في هذه الشبكة، ولذلك من الصعب للغاية، خصوصاً في المدى المنظور، أن يتم ذلك لأن موقع الرئاسة حتى مع الرئيس بشار الأسد تعزز تدريجاً وفق نظرية الهرم ذاتها وحافظ على نفوذه من خلال إعادة تشغيل آليات الحماية ذاتها عبر مؤسسات الدولة المختلفة الحكومية فالحزبية ثم الأمنية، ولذلك يعود صنع القرار النهائي كما هو الحال في عهد الرئيس حافظ الأسد الى الرئيس بوصفه جامع ومدبر أوجه الهرم الثلاث.
التعليقات