حازم صاغية
يصعب النظر إلى الجريمة التي أودت بالسيدة بينظير بوتو، زعيمة quot;حزب الشعب الباكستانيّquot;، من دون العودة إلى تاريخ بلدها باكستان. فالعودة تلك تعلّمنا كيف أن ذاك الوطن الذي ولد في 1947 كي يكون quot;وطناً لمسلمي الهند التاريخيّةquot;، لم يطوّر أيّة شرعيّة زمنيّة وسياسيّة للحكم وتداول السلطة، الأمر الذي وسم معظم تاريخه بالحكم العسكريّ فيما جعل العنف والقسوة سُنّةً من سنن حياته وتحوّلاته.
ولئن كان اغتيال بوتو الوحشيّ آخر تجلّيات استسهال القتل، بقي أن سيرة باكستان تزوّدنا أكثر من درس في أن quot;القضاياquot; الكبرى تزيد في تأجيج القسوة وفي تعزيزها نهجاً للتبادل السياسيّ. وغنيّ عن القول، كما سنرى، إن وطن بينظير بوتو يحضن فائضاً من تلك quot;القضاياquot; التي عملت المؤسّسة العسكريّة، بحثاً منها عن شرعيّة تفتقر إليها، على تأبيدها وتضخيمها.
لقد نشأت باكستان بلداً مستقلاًّ منفصلاً عن الهند صيف 1947، وكانت الولادة هذه مشوبة بالدم والعنف متخمة بالقضايا: فالتقسيم ترك إقليمين من أكبر أقاليم quot;الهند البريطانيّةquot;، أي البنجاب والبنغال، مقسّمين بين دولتي الهند وباكستان الجديدتين. وفي الأيّام الأولى للاستقلال، قُتل في الحرب الأهليّة- الطائفيّة ما ينيف عن مئة ألف شخص بينما هُجّر وهاجر أكثر من مليوني شخص من البلدين عبر الحدود. وأثمر التقسيم، كذلك، توتّراً حول كشمير المتنازَع عليها قاد، بُعيد الاستقلال مباشرة، إلى الحرب الهنديّة- الباكستانيّة الأولى. وفي المقابل، نشأت أزمة غير مسبوقة بين باكستان وأفغانستان حول الموضوع البشتونيّ حيث تنتشر القبائل البشتونيّة في البلدين على نحو عابر لحدود الدول الوطنيّة.
وفي 1948 أُقحمت اللغة والثقافة في النزاع. فقد أعلن محمّد علي جناح، مؤسّس دولة باكستان، أن quot;الأوردوquot; ستكون اللغة الرسميّة الوحيدة في البلد، مما تسبّب في إثارة احتجاجات صاخبة وواسعة في البنغال الشرقيّ حيث البنغاليّة لغة الأكثريّة. وكان أن وشت تلك الأحداث بحجم الهوّة التي تفصل بين شطري البلد المسلم اللذين تفصل الهند بينهما جغرافيّاً. وبالفعل بلغت حركة المطالبة باللغة البنغاليّة ذروتها مطالع 1952 حين أطلقت الشرطة النار على طلبة متظاهرين يطالبون بالمساواة بين لغتهم وبين quot;الأوردوquot;، فقتلت عدداً منهم. وفي 1953، وبحضّ من معظم الأحزاب السياسيّة، انفجر شغب واسع ضدّ الطائفة الأحمديّة التي قُتل عشرات من أبنائها ودُمّرت ممتلكاتهم. لكنْ عندما عُرضت الاعتداءات على التحقيق القضائيّ، في العام التالي، عارضت quot;الجماعة الإسلاميّةquot;، وهي أبرز الأحزاب التي حرّضت على الأحمديّين، الخطوة هذه وساد توتّر كان الذريعة المباشرة للجيش كي يتدخّل في الحياة السياسيّة ثم يقفز إلى السلطة.
هكذا افتُتحت، في 1956، الحقبة العسكريّة الأولى مع تسمية الدولة quot;جمهوريّة باكستان الإسلاميّةquot; وتسليم رئاستها إلى الجنرال إسكندر ميرزا. بيد أن الأخير ما لبث أن أطاحه انقلاب عسكريّ قاده، في 1958، الماريشال أيّوب خان الذي أصبح الرئيس، مدشّناً نظاماً جديداً في الحكم أسماه quot;الديمقراطيّة الأساسيّةquot; -أو quot;القاعديّةquot; basic- ومستبدلاً الدستور المعمول به بدستور جديد. وخلال عهد أيّوب خان، نمت العلاقات مع الولايات المتّحدة وانضمّت باكستان إلى الأحلاف الغربيّة لمحاصرة الشيوعيّة والسوفييت، فيما انخرطت، عام 1965، في حربها الثانية مع الهند التي كانت كشمير، أيضاً، سببها. وكان من نتائج الهزيمة أن تجرّأت المعارضة المدنيّة، وأحد قادتها ذو الفقار علي بوتو، والد بينظير، على أيّوب بحيث اضطُرّ أن يتنحَّى في 1969 مودعاً السلطة في يد رئيس أركانه وأكثر جنرالاته ولاء يحيى خان الذي استمرّ معه الحكم العسكريّ.
وما لبث التردّي أن انتقل من الخارج إلى الداخل: فباكستان الشرقيّة، أو بنغلاديش على ما باتت تُعرف، استقلّت في 1971 عبر حرب طاحنة وشرسة. فخلال الستينات نهضت القوميّة الثقافيّة اللغويّة للبنغاليّين وتعزّزت بشعور عامّ لديهم بالغبن: ذاك أن المهن وفرص العمل كانت فائدة الغربيّين منها أكبر بلا قياس، كذلك كان حال احتكار بورجوازيّتهم للسوق المحليّة. وفي الآن نفسه وجدت القوّة هذه تعبيرها في quot;رابطة عواميquot; بزعامة الشيخ مجيب الرحمن التي حصدت في انتخابات 1970 العامّة 167 مقعداً من أصل 169 مخصّصة لباكستان الشرقيّة، فيما كسب علي بوتو وحزبه quot;حزب الشعبquot; أكثريّة مقاعد الغرب. وإذ عولج التحوّل هذا بالقمع الشديد للشرقيّين واعتقال مجيب الرحمن، تأدَّى عن الصراع المسلّح لجوء عشرة ملايين بنغاليّ إلى الهند الداعمة لاستقلالهم، مما حوّل الحرب حرباً هنديّة-باكستانيّة أخرى. وإذ كُتب الفشل المهين ليحيى خان وجيشه، انتهى الأمر به إلى الاستقالة وتسمية قائد المعارضة علي بوتو، أواخر 1971، رئيساً للجمهوريّة، ومن ثمّ انتهاء الحكم العسكريّ.
بيد أن قضيّة بوتو الجديدة كانت تطوير سلاح نوويّ ردّاً على معلومات تفيد أن الهند تقترب من إنجاز كهذا. وإلى هذا، انفجر تمرّد في إقليم بلوشستان، مدعوماً من شاه إيران، يطالب بالاستقلال. والأخطر كان خضوع بوتو لضغوط بعض القوى الدينيّة وإعلان البرلمان، في 1974، أن الأحمديّين ليسوا مسلمين. لكنْ بعد ثلاث سنوات، اتُّهم بوتو بتزوير الانتخابات لإنجاح حزبه، ثم انقضّ انقلاب عسكريّ آخر على الحكم المدنيّ قاده، هذه المرّة، الجنرال محمّد ضياء الحقّ فأعدم بوتو بذريعة موافقته على إعدام معارض سياسيٍّ له.
وفضلاً عن القمع والتعطيل السياسيّ والعمل بالقانون العُرفيّ حتى 1985، ناهيك عن سحق انتفاضة بلوشستان، قام حكم ضياء الحقّ على دعامتين:
من جهة، أسْلمة السياسة والاجتماع، بعد التراجع عن سياسات بوتو شبه الاشتراكيّة. ففي 1978 أُعلن عن اعتماد الشريعة رسميّاً، فيما فُرض مزيد من القيود والمضايقات على الأحمديّين،
ومن جهة أخرى، تطوير التحالف الاستراتيجيّ مع واشنطن، لاسيّما مع الغزو السوفييتيّ لأفغانستان في 1979. هكذا جُعلت باكستان ممرّ المساعدات التي تقدّمها إدارة ريغان لـquot;المجاهدينquot; الأفغان. وردّاً على ذلك نفّذت المخابرات الأفغانيّة في العهد الشيوعيّ، quot;خدّquot;، عدداً من العمليّات الإرهابية داخل باكستان التي راحت تتدفّق عليها، من أفغانستان وبسبب حربها، الأسلحة والمخدّرات بصورة غير شرعيّة طبعاً. وفي مقابل المعونات الأميركيّة الضخمة في الثمانينات، استقرّ فيها ما سمّاه الإعلام quot;أكبر شعب لاجئ في العالمquot; هرباً من الحرب والاحتلال السوفييتي.
وفي 17 أغسطس 1988، انتهى كابوس ضياء الحقّ بحادث جوّيّ أودى به لا يزال يشوبه الغموض، وإن لم تنتهِ الكوابيس الباكستانيّة الكثيرة. صحيح أن الباب فُتح مجدّداً للحياة السياسيّة والبرلمانيّة غير أنها لم تكن كافية ولا صحيّة إلى الحدّ الذي تتطلّبه مشاكل البلد. فما بين 1988 و1999 تعاقب على الحكم بينظير بوتو ونوّاز شريف الذي كان قد رعاه ضياء الحقّ، فتسلّم كلّ منهما رئاسة الحكومة مرّتين، وكان الفساد يطيحهما في المرّات الأربع. وتراجع، في هذه الغضون، النموّ الاقتصاديّ، لاسيّما في أواخر الحقبة البرلمانيّة مع انفجار الأزمة الماليّة الآسيويّة بينما فُرضت على باكستان عقوبات اقتصاديّة، في 1998، بسبب تجاربها النوويّة. وإذ تدهورت العلاقات من جديد مع الهند وتخوّف العالم من حرب أخرى بسبب كشمير، بدت إسلام أباد راعية للحكم الطالبانيّ في أفغانستان الذي تخرّجت أعداد من كوادره ومقاتليه من quot;المدارسquot; الإسلاميّة الباكستانيّة. ومع الولاية الثانية لنوّاز شريف تبدّت اتّجاهاته صريحةً لإقامة نظام سلطويّ يتنصّل تباعاً من قيود البرلمان والمحكمة العليا التي اقتحمها جنوده.
هكذا، وفي أواخر 1999، أطاح قائد الجيش برويز مشرّف الحكم المدنيّ وأعيدت خيوط السياسة إلى قبضة الجيش. وإذا كانت الأحداث التالية لا تزال طريّة في الذاكرة، بقي أن الموضوع المحوريّ كان الحرب الأميركيّة التي أطاحت quot;طالبانquot; بعد جريمة 11 سبتمبر. فقد نجم عنها تصاعد في قوّة الحركات الأصوليّة الباكستانيّة، وانقشاع الضعف في جهاز الدولة لجهة قدرته على الوفاء بالتزام المشاركة في quot;الحرب على الإرهابquot;. وإلى تحدّي الأصوليّين لمشرّف، كان حكمه العسكريّ يوسّع الهوّة التي تفصله عن الفئات الحديثة العلمانيّة والمدنيّة، لاسيّما القضاة والإعلام. وفي السياق هذا كان التعويل على بينظير بوتو التي عادت من منفاها، كما فعل نوّاز شريف، لإعادة تأهيل النظام ديموقراطيّاً، ببرويز مشرّف أو من دونه، كيما يتمكّن من احتواء التهديد الأصوليّ. أما النهاية المأساويّة فمعروفة للجميع.
التعليقات