بول كروغمان - نيويورك تايمز
أود أن أتحدث اليوم عن الرجوع المذهل لمتسابق كثيراً ما تعرض للسخرية والاستخفاف، هذا الرجوع الذي يضع علامات استفهام حول العديد من الأفكار التقليدية السائدة في النقاش السياسي الأميركي. والواقع أني لست بصدد الحديث عن أحد السياسيين كما يمكن أن يتوقع البعض، بل أتحدث عن الاقتصاد، وتحديداً الاقتصاد الأوروبي الذي ينظر إليه العديد من الأميركيين على أنه منهك وأنه استنفد أغراضه، لكنه مع ذلك أبان في الآونة الأخيرة عن حيوية منقطعة النظير. فلماذا يتعين على الأميركيين الاهتمام بالاقتصاد الأوروبي والانشغال بتفاصيله؟ الجواب يكمن في الحجم الكبير للاقتصاد الأوروبي، حيث يقارب الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي نظيره في الولايات المتحدة. ولا ننسى أن اليورو بات يحظى بنفس القدر من الأهمية التي يمتع بها الدولار على الصعيد العالمي، كما أن إدارة النظام المالي العالمي يقتسمها كل من البنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
والأكثر من ذلك يتعين علينا ونحن نتطرق إلى الاقتصاد الأوروبي تصحيح بعض الحقائق، ذلك أن هناك مشاكل اقتصادية مزعومة لدى الأوروبيين يتم اللجوء إليها لتبرير مصاعبنا الاقتصادية واختلالاتنا الاجتماعية في الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال هل تملك quot;هيلاري كلينتونquot; خطة محددة لتوفير التغطية الصحية للملايين من الأميركيين المحرومين منها؟ لكن بدلاً من الانكباب على الجواب يرد quot;ميت رومنيquot; بنوع من الاستعلاء متهماً quot;هيلاريquot; بأنها quot;تستلهم نموذج البيروقراطيات الأوروبيةquot;. وفي مثال آخر على عدم إدراك حقيقة ما يجري في الاقتصاد الأوروبي انظروا إلى جواب أستاذ العلوم الاقتصادية quot;مايكل جينسينquot; في كلية إدارة الأعمال بجامعة quot;هارفاردquot; حول سؤال لماذا يتلقى مدراء الشركات في أميركا رواتب عالية جداً؟ حيث نقلت صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; في تقريرها أن السبب يرجع في نظره إلى اعتقاده quot;بأن ذلك ثمن معقول يدفع للاقتصاد الأميركي نظير تفوقه على الاقتصادين الياباني والأوروبي في تحقيق النمو والازدهارquot;.
والواقع أن كل ما يُقال عن أوروبا المتقادمة إنما ينطوي في الحقيقة على الكثير من المبالغة. فلاشك أن أوروبا عانت الكثير من المصاعب الاقتصادية على امتداد الجيل السابق، بل ودخلت خلال منتصف السبعينات في مرحلة طويلة من البطء الواضح في خلق الوظائف، وهو الأمر الذي تناقض مع النمو الاقتصادي الذي عرفته أميركا في نفس الفترة. وخلال فترة التسعينات تخلفت أوروبا عن الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا الجديدة، حيث لم تتعد نسبة الفرنسيين الذين يملكون جهاز كمبيوتر خاص في منازلهم في العام 1997 نسبة 15%، كما أن أقل من 1% كانوا يستخدمون الإنترنيت، إلا أن ذلك كان في الماضي. فمنذ العام 2000 ارتفع معدل التوظيف في أوروبا على نحو أسرع من أميركا، وبما أن معدل الولادات في أوروبا هو أقل مقارنة مع الولايات المتحدة فقد ارتفع عدد الأوروبيين الذين يتوفرون على وظائف حتى في ظل انخفاض الطلب على الوظائف في أميركا. وقد تلاشت الفجوة التي كانت قائمة في السابق بين سنوات العمل في الولايات المتحدة وأوروبا والمحصورة أساساً بين 25 و54 بسبب النمو الاقتصادي الذي حققه الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة. وإذا كان البعض يعتقد أن أوروبا هي المكان الذي يجلس فيه السكان القادرون على العمل في بيوتهم لينتظروا الإعانات الاجتماعية من الحكومة، فقد حان الوقت ليعيد التفكير.
وفي أثناء ذلك اختفت أيضاً الهوة بين أميركا وأوروبا فيما يتعلق باستخدام الإنترنت. فإذا كانت الولايات المتحدة قد تفوقت خلال التسعينات في استخدام الإنترنيت المعتمدة على خطوط الهاتف، فإن أوروبا لحقت بالولايات المتحدة فيما يتعلق باستخدام الإنترنت ذات quot;الموجة العريضةquot;، فضلاً عن استخداماتها اللاسلكية. فقد فاق عدد مستخدمي الإنترنت بهذه الأساليب الحديثة في الدول الخمسة عشر الأعضاء في الاتحاد الأوروبي -قبل توسعه- مثيله في الولايات المتحدة. وبالطبع لا أريد أن أبالغ في مزايا الاقتصاد الأوروبي، حيث مازلت الدول الأوروبية تعيش الكثير من المشاكل الاقتصادية، لكن من منا لا يعرف المصاعب الاقتصادية؟ والحقيقية أن الاقتصاد الأوروبي هو أفضل حالاً مما كان عليه قبل عقد من الزمن سواء بالمعنى المطلق، أو بمقارنته بالاقتصاد الأميركي. فكيف يمكن تفسير هذا الرجوع الأوروبي على الصعيد الاقتصادي؟ من الصعب تقديم إجابة شافية، لكن لاشك أن هناك عوامل عديدة تضافرت مثل الجمع بين تحرير الاقتصاد من جهة (وهو ما ساهم في خلق الوظائف)، والتدخل الحكومي الذكي من جهة أخرى. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه من الأسباب المهمة التي ساهمت في نجاح أوروبا في مجال الإنترنت هو فتح المنافسة أمام العديد من شركات الاتصالات، بدل نظام الاحتكار القائم في الولايات المتحدة.
ولعل ما تصر عليه الدول الأوروبية أكثر من غيره هو التمسك بشبكتها القوية للضمان الاجتماعي، بحيث تحولت التغطية الصحية الشاملة إلى معطى ثابت وحق مكتسب لا يجوز المساومة عليه، كما أن الإعانات الأخرى التي تحصل عليها الأسر الفقيرة إحدى ثوابت السياسة الاجتماعية.
وباختصار استطاعت أوروبا أن تحافظ على حكوماتها الكبيرة وتعزز من دورها الاجتماعي دون أن تضحي بالنمو الاقتصادي. وإذا ما رجعنا إلى الولايات المتحدة نجد أن الفكرة السائدة التي تهيمن على النقاش السياسي هي الدعوة إلى خفض الضرائب وتفكيك شبكة الضمان الاجتماعي لتحقيق الرخاء. ويحذر أصحاب هذه النظرية من أننا لو حاولنا توفير بعض الأمان للأميركيين فإن الاقتصاد سينكمش، وهو ما لم يحدث في أوروبا!
التعليقات