أحمد عبد الملك

وفدَ إلى منطقة الخليج عددٌ كبير من الإخوة العرب منذ الخمسينيات؛ حيث عملوا في البنى التحتية لهذه المنطقة، من التعليم والصحة والإعلام والصحافة؛ وغيرها من المجالات التي ساهمَ في تأسيسها هؤلاء الإخوة العرب الذين تقطّعت السُّبل بينهم وبين بلدانهم الأصلية؛ وعاش أبناؤهم عيشة المواطنين من الشباب وتطبَّعوا بطباع البلدان الخليجية والتزموا بقوانينها وحافظوا على الأمن ولم تُسّجل ضدهم أية دعاوى أو تُهم نتيجة مخالفاتهم للقوانين. كما أنهم حافظوا على الانتماء لهذه البلدان، بل ولزم بعضهُم الصمتَ عندما quot;ادلهمَّتquot; الخطوب.

واليوم وبعد أن وصل عُمرُ أحد هؤلاء الإخوة العرب إلى السبعين -وهو من فلسطين السليبة والمقسومة على اثنين حالياً- الذين لا ملجأ لهم ولا أهل منذ تركهم وطنَهم لظروف قاسية في الخمسينيات. أين يذهب هؤلاء بعد أن شاخوا؟! وكيف سيعيشون حياة كريمة!؟ وهم لا يعرفون إلا بلدان الخليج. وفي هذه الدول قوانين مختصة بالهجرة والإقامة؛ وتحتّم هذه القوانين أن المتقاعد العربي يُرحَّل من البلاد أو يُمنح هو وزوجته إقامة لمدة سنة فقط!؟
نحن نعتقد؛ طالما أن هذا الإنسان عاش 40 عاماً، أفنى شبابه في خدمة البلد، فمن المعقول أن يُمنح إقامة دائمة؛ ويُضمن له التطبيب المجاني أسوة بالمواطنين. وكيف لعجوز تجاوز السبعين أن quot;يتشرشحquot; بين مكاتب الهجرة والجوازات من أجل الحصول على إقامة لمدة عام؟! وهو الذي تعبَ في بناء البلد وعقول أهلها وانتمى إليها ولم تسجّل ضده أية مخالفة؟

إن نظرة واقعية على أحوال هؤلاء الإخوة العرب الذين قدّموا خدمات جليلة لدول الخليج تحتم علينا الاقتراح بتعديل بعض قوانين الإقامة لهم، بحيث يُمنحون إقامة دائمة على غرار كل الأجانب -الذين يأتون من كل فج عميق- ويشترون شققاً في بعض الدول، ويُمنحون إقامة دائمة. كما يقترح أحدُ هؤلاء الذين تجاوزوا السبعين أن يُسمح لهم بشراء منزل طالما أن أولادهم يمكنهم دفع قيمة ذاك المنزل. إن هذه المبادرة سوف تزيل همّاً عن كاهل بعض الإخوة العرب المخلصين للمنطقة؛ والذين ساهموا دون كلل في تعليم أجيال من الخليجيين وبعضهم عمل في الإعلام والرياضة والثقافة وغيرها من المجالات الهمة.
إن إراحة هؤلاء العرب بعد رحلة العمل الشاقة التي عَبَروها في خدمة بلدان الخليج لن تكلف الدول أي شيء سوى طابع بريد. ودول الخليج -أدام الله عليها النعمة والأمن والأمان- غنية، وهي توزع المساعدات والعطايا هنا وهناك، وهؤلاء الإخوة العرب الذين شاخوا عندنا يحتاجون إلى عناية وكرم لا يطلبونه.
لقد جمعني مجلسٌ ذات يوم مع اثنين من العرب الذين خدموا أكثر من أربعين عاماً في مجال التدريس، وكادَ بصرُ أحدهم يتلاشى من كثرة ما صلّحَ من أخطاء الجيل الخليجي في الخمسينيات وحتى التسعينيات. وأصبح يضع نظارة سميكة لعله يرى الواقفَ أمامه، وحدثني عن موضوع هذا المقال. ووعدته أن أكتبه وأنقله للمسؤولين الذين تتسع قلوبهم للمبادرات الجميلة والإنسانية.
ونحن بهذا لا نعني بعض المتطفِّلين الذين أتوا بالأمس من بلدانهم؛ أو أصحاب الأفكار الشاردة، من الذين خرجوا علينا بالأغاني والأهازيج النشاز يوم احتلت الكويت؛ أو عندما تنتهي عقود أعمالهم ويأخذون حقوقهم كاملة؛ يتنكَّرون للدول التي آوتهم وأغدقت عليهم وعلّمت أبناءَهم. أبداً لا نقصد هؤلاء.

نحن نقصدُ العربَ الأخيار الذين ساهموا في إنشاء البنى التحتية -وبعضهم مازال يواصل طريقَ خدمة المنطقة في كل الجوانب التنموية- علماً بأن لدى البعض منهم جوازات سفر كندية أو أميركية؛ لكنهم متمسكون بالعيش في المنطقة مُحاطين بأولادهم وأحفادهم، ويتذكرون الشخصيات التي علَّموها أو عمِلوا معها بكل حب وشفافية.
كم سيكون الأمر جميلاً لو التفتت دولُ الخليج لهؤلاء العرب القلائل الذين أدّوا لها خدمات جليلة، وتجاوزوا السبعين، ويعمل أولادُهم في خدمة المنطقة أيضاً في التخصصات الدقيقة، وليست لديهم أفكارٌ سياسية مناوئة أو سلبية تجاه دول المنطقة؛ وقامت هذه الدول بتسهيل إقامة وإعاشة هؤلاء الذين عاشوا بين جوانحها مدة تجاوزت الأربعين عاماً!؟ وكم سيكون الأمر جميلاً أيضاً أن يُواصل هؤلاء انتماءَهم للمنطقة وحبهم لأهلها، حيث لا يُترك الأمر للجهات التي تتصيّد في الظلام لنشر دعايات مغرضة بأن دول الخليج فيها تجاوزات لحقوق الإنسان. كما أننا ندرك أن الإنسان الذي يعيش عيشة راضية ومطمئنة في مكان ما، لن يتعرض للإغراء أو تُستلب إرادتُه كي يمارسَ أو يشترك في أعمال مُخلة بالأمن أو يعرّض المجتمع للخطر، وإن تلك العيشة تمنعه من أية ممارسة سلبية؛ وبذلك يكون مواطناً صالحاً يشارك البلاد همومَها وآمالهَا وتطلعاتها. ويحاول قدرَ استطاعته إنارة الشموع ولا يلعن الظلام مع اللاعنين.

كما أن في ذلك التسهيل البسيط ما يدعم التوازن في قضية مهمة تعاني منها دول الخليج العربية وهي العمالة الوافدة الأجنبية. واستشراس العادات والتقاليد والممارسات الغريبة والشاذة عن مجتمع الخليج العربي. علماً بأن هذا العدد البسيط من الإخوة العرب كبار السن لن يصل إلى 2% من مجموع الوافدين الذين يزدادون في العام مئات الآلاف. وهؤلاء الوافدون الأجانب يحملون معهم ما يحملون!؟ ونحن نشاهدهم يومياً بملابس غريبة وأطعمة غريبة ومحلات غريبة لـquot;المساجquot; والتجميل والتدليك وغيرها من ملامح المعيشة الغريبة والتي بلاشك سوف تؤثر سلبياً على تركيبة المجتمع واتجاهاته. أما الإخوة العرب فلا يختلفون عنا في شيء! يعرفون طريقَ المدرسة وطريقَ المسجد وطريقَ المطعم اللبناني والفلافل المصرية والشاورما والحلوى الفلسطينية، وكثيرون يلبسون الثوب (الدشداشة) والغترة والعقال. والأهم أنهم يتكلمون ذات اللغة ويمارسون نفسَ الطقوس الدينية. لذلك فنحن نرى أنه (لا خوف عليهم ولا يحزنون) طالما التزموا بقوانين البلاد المعروفة.
نحن لا نود أن نعقد مقارنات مع ما يجري في أميركا وبعض الدول الأوروبية في مجال منح الجنسية أو الإقامة. كذلك نحن نؤمن بأن لكل دولة سيادتها المطلقة خصوصاً في منح الجنسية، وهو أمر سيادي. وكل دولة من الدول تمنح الجنسية للأشخاص حسب تقييمها ورؤيتها لمن يستحقها؛ ولو كان لاعبَ كرة يرمي الجنسية بعد مغادرته البلاد. لكن قضيتنا هنا لا تتعلق بمنح الجنسية أبداً، بل بتعديل بعض قوانين الإقامة، وتسهيل أمور الحياة للإخوة العرب الذين خدموا بلدان الخليج، ولم يبخلوا عليها.
لقد وعدْتُ الأَخوين العَربيين اللذين طرحا هذا الموضوع -وفيه بعض من معاناتهما- أن أتناول الموضوع في مقالي. ولقد فعلت. والله على ما أقول شهيد.