عبدالله ناصر العتيبي

عندما حصل الكويتيون على استقلالهم عام1961 ، كان أمامهم خياران لا ثالث لهما، إما أن تتم مسألة تضخيم الهوية الوطنية على حساب الهويات الطائفية والقبلية والإقليمية أو يتم الاحتفاظ بالتمايزات والاختلافات والفروقات التي تضرب بأطنابها في قلب المجتمع الكويتي، إما أن تكون الدولة دولة واحدة أو فليختر الأئمة والملالي وشيوخ القبائل إقطاعياتهم ومحمياتهم.
اختار الكويتيون الخيار الأول لأنهم منذ بواكير الاستقلال كانوا يريدون استيراد الديموقراطية الشقراء ذات العينين الزرقاوين وزرعها في السواحل الشمالية للخليج العربي. كان الكويتيون الأوائل يعرفون أن الديموقراطية الحقيقية لا تعيش إلاّ في مجتمعات نظيفة من الاستقطابات الجمعية بكافة أشكالها، لذلك حرصوا أشد الحرص على تفعيل مبدأ الانتماء الواحد وتكريسه بين أوساط الكويتيين بكافة شرائحهم، فكان من الصعب مثلاً قبل عام 1990 أن تفرز السني من الشيعي أو القبلي من الرجل ذي الأصول العراقية أو الفلسطينية. استطاع الكويتيون خلال تسع وعشرين عاماً أن يوازنوا بين حاجات الديموقراطية وطبيعة مجتمعاتهم. وعرفوا جيداً أن نماء الديموقراطية وازدهارها لا يكون إلاّ في بيئة تتخذ من الفردانية منهجاً لها. كانت الحالة الكويتية بحق مثالاً ونبراساً يُهتدى به في المنطقة.
لكن ما الذي حدث بعد التسعة وعشرين عاماً؟ وكيف انقلبت الحال الكويتية رأساً على عقب؟!.
الديموقراطيات تحتاج لجُدر حماية، تحتاج إلى أسوار عالية تحميها من التغيرات والاستثناءات والتقلبات، والديموقراطية الكويتية للأسف لم تكن تمتلك أي نوع من أنواع المصدات أو الحاميات!!. هجمت عليها الديكتاتورية العراقية من الجهة الشمالية فقطعت أوصالها، وغرست سيف الجهل والجوع في وسط قلبها، حتى أردتها قتيلة مضمخة في دمائها، وزادت بأن عاثت فساداً في المكتسبات الكويتية وشوهت وجهها الجميل الذي كان محط أنظار العرب جميعاً.
وعندما تم طرد المحتلين العراقيين في فبراير 1991، وعاد الكويتيون إلى جنتهم الأولى تفاجئوا بأن الكأس التي انكسرت لا يمكن إعادتها من جديد لحالتها الأولى، فالقبائل نتيجة للحرب أصبحت أحزاباً ، والطوائف الدينية صارت أحزاباً، والخلفيات العرقية والإقليمية صارت هي الأخرى أحزاباً وأحزاباً!!. وبدلاً من تتقسم الديموقراطية المتمثلة في مجلس الأمة على فردانية الشعب، تقسمت على الخرائط القبلية والمذهبية والعرقية والإقليمية!!.
صار المجلس حلبة للصراعات الإيديولوجية ومكاناً مناسباً لتصفية الحسابات، وبدلاً من العمل على دفع التنمية صار النواب يتسابقون على التعطيل، لا من اجل الكويت، بل من أجل خلفياتهم الدينية أو القبلية!!.
ونتيجة لذلك توقفت الكويت حضارياً عند عام 1990 ولم تستطع تجاوزه حتى الآن!!.
لا مشكلة في تشكل التكتلات والأحزاب في السباقات البرلمانية، فالديموقراطية في الأساس وصية على صوت الأغلبية، إنما المشكلة في أن تكون هذه التكتلات قائمة على المرجعيات الدينية أو القبلية أو العرقية أو الإقليمية لأن في ذلك إلغاء لصوت الفرد الذي هو حجر الأساس لأي ديموقراطية حقيقية، وهذا ما حصل بالضبط في كويت ما بعد 1990، فالقبائل ترهن أصوات أبنائها لرجل يتم اختياره بطريقة لا علاقة للديموقراطية بها، والذين يظنون أنهم أوصياء من عند الله على خلقه يختارون مرشحيهم ثم يشيرون لمريديهم بأن يقدموا على صناديق الاقتراع بطريقة تعتمد كثيراً على مبدأ سياسة القطيع، وعندما يصل هؤلاء المرشحون للمجلس، فإنهم لا يجلسون على كراسيهم بصفتهم المفردة، بل يجلبون معهم تعقيداتهم التاريخية ورؤاهم الملتبسة حول الواقع والمستقبل.
ما الحل إذن للكويت؟ ما الحل أيضاً لديموقراطية الجزائر التي فشلت قبل أن تبدأ عام 1992؟ ما الحل لديموقراطية فلسطين التي تسببت في مجيء (الزعران الحماسيين) للسلطة؟ ما الحل في ديموقراطية العراق المتعثرة؟ ما الحل في ديموقراطية لبنان المشروطة والمقننة؟!! باختصار، وفي سؤال شامل: ما الحل للعرب الذين ينشدون الديموقراطية؟!
كما قلت في أول المقالة، الديموقراطيات تحتاج لجُدر حماية، وبما أن الدول العربية جميعها ليست قادرة على توفير خطوط حماية للديموقراطيات الحقيقية ذات النسق الغربي، فعليها البحث عن ديموقراطيات بديلة تتناسب مع المجتمعات العربية التي تختلف تشكيلاتها وطبيعتها اختلافاً جذرياً عن المجتمعات الغربية.
في الغرب تتعامل الديموقراطية مباشرة مع الفرد حتى وإن كان مقيداً ضمن حزب يتبنى فكرة دينية أو قومية، ويتعامل معها الفرد بطريقة عكسية بشكل يكفل مصالحه الشخصية التي تبدأ من حاجاته الأساسية. أما في منطقتنا فعلى الديموقراطية أن تتعامل مباشرة مع إيديولوجيا معينة، لا يهمها كثيراً مصالح الأفراد الذين يعتنقوها، وإنما تضع دائماً على رأس أولوياتها العمل على ضمان بقاء نظرياتها!!.
على الديموقراطيات العربية أولاً أن تتخلص من الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين. ومن ثم تحاول أن تشكل نفسها بطريقة تسمح لها بالدخول في الوعاء العربي. كيف يكون ذلك، بالخطوات التالية:
bull; عدم الأخذ بنسبة التفاوت بين الأصوات في صناديق الاقتراع، وإنما يتم الأخذ بطريقة النقاط على الخارطة، كما هو الحال في أمريكا.
bull; وجوب انضمام نواب المجالس البرلمانية لتكتلات حزبية تحت قبة البرلمان، ليشكلوا صورة مصغرة للتشكيلات الشعبية خارج البرلمان، بمعنى أنه يجب أن يحدد كل نائب برلماني التكتل الذي يريد الانضمام إليه داخل البرلمان، بحيث لا يمكن تغيير هذه التكتلات إلا بانتهاء مدة البرلمان.
bull; عدم نفاذ أي قرار أو تعطيل أي قرار من خلال البرلمان ما لم يحظى بموافقة أكثر من كتلة برلمانية وليس بنظام الأغلبية كما هو متبع حالياً، بحيث تنوب التكتلات عن النواب بصفتهم المفردة.
bull; إدخال نظام (المحلفين) في البرلمان، للتصويت على بعض القرارات التي تتعطل في أروقة المجلس.
bull; تشجيع وتفعيل الانتخابات الصغيرة والمحلية لتكريس مفهوم الديموقراطية في وجدان الشعب. يكفي أن نعرف أن عدد الانتخابات في أمريكا لوحدها يتجاوز الأربعمائة ألف عملية انتخابية في السنة، بدءاً بانتخابات المدارس الابتدائية وانتهاء بالانتخابات الرئاسية.