خالد الدخيل
المشهد السياسي اللبناني يوم الخميس الماضي كان موحياً بأشياء كثيرة. قيل إنه موحياً بعمق الانقسام: الأكثرية أو الموالاة أحيت الذكرى الثالثة لاغتيال رفيق الحريري بمهرجان خطابي. وquot;حزب اللهquot; ومعه المعارضة، أقاما احتفالاً جماهيرياً لتأبين عماد مغنية، القائد العسكري للحزب، والذي اغتيل في دمشق. كان الاحتفالان في مدينة واحدة، لكن في ساحتين منفصلتين. جاءت الخطب من الجانبين مليئة برموز ومصطلحات العداوة والتخوين، والطلاق والانفصال. لسان الحال كان يقول: لكم قتلاكم ولنا قتلانا، ولكم شهداؤكم ولنا شهداؤنا. التغطيات الإعلامية للأحداث تسير وفقاً لنهج التقسيم ذاته. هناك صحف وتلفزيونات تتحدث باسم المعارضة. وفي المقابل هناك صحف وتلفزيونات تمثل الأكثرية. صورة الانقسام تكتمل يوماً بعد آخر: موالاة ومعارضة، قضية خلافية مصبوغة بالدم، هي اغتيال الحريري. الشعب اللبناني، أو أكثريته، منقسم بين الفريقين. لكل فريق قاعدته الشعبية التي تميزه عن الآخر، ولكل منهما جهازه الإعلامي، ومصادر تمويله، وحلفاؤه في الداخل والخارج، وقبل هذا وبعده، لكل فريق قوته المسلحة. وحتى تكتمل الصورة، لكل فريق عقيدته الخاصة به: عقيدة الموالاة هي الدولة والحرية والاستقلال، وعقيدة المعارضة هي المقاومة، ومنازلة الاستكبار العالمي. كل شيء جاهز ينتظر لحظة الانفجار.
هذا ما يوحي به المشهد فيما يتعلق بمستقبل الأحداث. هناك أمور أخرى يوحي بها المشهد وتتقاطع مع الإيحاء الأول في أمور كثيرة. أشار quot;حازم الأمينquot; في صحيفة quot;الحياةquot; الأحد الماضي إلى دلالة حضور وزير الخارجية الإيراني، quot;منوشهر متقيquot;، حفل quot;حزب اللهquot; لتأبين عماد مغنية. كان متقي هو المسؤل الأجنبي الوحيد الذي شارك في التأبين. تساءل الأمين: كيف وبأية صفة دخل متقي إلى لبنان؟ مجيئه لم يكن زيارة رسمية للبنان. وهو ليس مدعواً من قبل الحكومة اللبنانية. وهذه الحكومة ليست مدعوة أصلا إلى حفل التأبين، لأنها في نظر quot;حزب اللهquot; حكومة غير شرعية. إذن كيف، وبأية صفة دخل وزير خارجية إيران إلى لبنان؟ هل دخل بصفته الرسمية كوزير للخارجية؟ ليس هناك ما يشير إلى ذلك. لم يحصل له استقبال رسمي، ولم يلتق بأي مسؤول في الحكومة. الأرجح أن متقي دخل إلى لبنان بدعوة من quot;حزب اللهquot;، وفي ضيافة quot;حزب اللهquot;. بناء على ذلك استنتج quot;الأمينquot; أن لبنان أصبح في تلك اللحظة ساحة مفتوحة، وليس دولة لها حدود، ولها قوانين، وإجراءات سفر، ومراسيم استقبال محصورة في الدولة دون سواها. تعبير quot;الساحةquot; يعني أشياء كثيرة. قد يعني تهاوي الدولة في نظر البعض، مما يستدعي إعادة تأسيسها من جديد، وعلى أسس مختلفة عن ذي قبل. والمعروف أن أبرز سمات الدولة اللبنانية أنها دائماً ضعيفة. وضعفها ليس فقط عسكرياً. هي ضعيفة سياسياً، وقانونياً، وثقافياً، واقتصادياً. الدولة اللبنانية كانت دائماً الأكثر عرضة للسقوط. ما يمنع ذلك ودائماً هو المصالح والتوازنات والتفاهمات الإقليمية والدولية. ترى هل حمل مشهد الخميس الماضي شيئاً حول الكيفية التي ستكون عليها التفاهمات والتوازنات الإقليمية والدولية هذه المرة؟
على هذا المستوى يوحي مشهد الخميس اللبناني بما صار حقيقة ماثلة للعيان. في هذا المشهد تبدو الدولة اللبنانية موضوعاً للصراع، وليست طرفاً فيه. على الأرض يدور الصراع بين دولة خارجية، إسرائيل، وبين quot;حزب اللهquot;. ينبغي النظر إلى الصورة كما هي، وبعيداً عن أيديولوجيا المقاومة في هذه الحالة تحديداً. صورة المشهد اللبناني ليست في الواقع إلا جزءاً من الصورة الأشمل للمشهد السياسي العربي. في هذا المشهد تبدو الدولة العربية كما لو أنها موضوع للصراع. هنا على الأرض أيضاً يدور الصراع في المنطقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية، وquot;حزب اللهquot;، وquot;القاعدةquot;، وquot;حماسquot; وquot;الجهاد الإسلاميquot;... إلخ، من ناحية أخرى. الدولة العربية محشورة بين الطرفين. تحارب المنظمات الإرهابية، وتحاول احتواء منظمات المقاومة في الطرف الثاني. وفي الوقت نفسه تعمل على التفاوض مع الدول الأجنبية في الطرف الأول. مأزق الدولة العربية أنها لم تحقق حتى الآن ما تتطلع إليه من نجاح في أي من هاتين المهمتين. تنظر المنظمات الإرهابية إلى الدولة العربية على أنها العدو الذي تجب إزاحته من الطريق. من ناحيتها لا تثق منظمات المقاومة في الدولة العربية: لا تثق في التزامها بهدف المقاومة، وأكثر من ذلك لا تثق في قدرة هذه الدولة حتى على تحقيق ما تلزم نفسها به من استقلال وحرية في ظل السلام الذي تؤمن به. الدولة العربية من جانبها لا تطمئن إلى طموحات وطروحات المنظمات المقاومة، ولا تطمئن إلى نواياها وتحالفاتها الخارجية. في ظل مثل هذه العلاقة الملتبسة لا يمكن استبعاد إمكانية وصول طرفيها إلى حالة صدام ينتظر منه أن يحسم الموقف، ويزيل الالتباس. وقد حصل شيء من هذا بين السلطة الفلسطينية (الصورة المصغرة للدولة العربية) وحركة quot;حماسquot; إحدى أبرز منظمات المقاومة. وهو يحصل حالياً في لبنان بين الحكومة وquot;حزب اللهquot;. في لبنان لم تعد الدولة تحتكر قرار الحرب والسلم. الأكثر من ذلك أن هذا القرار ربما خرج من يد الدولة جملة وتفصيلاً. quot;حزب اللهquot; هو الذي يملك هذا القرار، ويملك القدرة على تفعيله.
صورة المشهد العربي تقدم الدولة العربية وهي تقع في حالة ضعف بين ضغوط الخارج، وضغوط الداخل. لا تستطيع الحسم في هذا الاتجاه أو ذاك. بل ربما تعتبر الحسم ليس من مصلحتها الآن. آخر الأمثلة على ذلك المبادرة العربية لحل مأزق الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وهي مبادرة ممهورة بتواقيع كل الدول العربية، وأمانة الجامعة العربية. هنا يبرز السؤال: من المسؤول عن كل ذلك؟ الإجابة واضحة: الدولة العربية هي المسؤولة قبل غيرها. لكن ماذا عن ضعف هذه الدولة، ومنازعة منظمات الإرهاب والمقاومة لها في سلطتها وقرارها؟ الإجابة أيضاً واضحة. مقابل ذلك السؤال سؤال آخر: من الذي سمح لمنظمات الإرهاب والمقاومة بالتحول إلى قوى تملك القدرة على منازعة الدولة في كل ذلك، ومقاومتها عليه؟ المسؤول هي الدولة ذاتها. ضعف هذه الدولة، وفسادها، واستكانتها، هو الذي سمح ببروز منظمات الإرهاب والمقاومة، وبأن تصبح هذه المنظمات في موضع يسمح لها بمنافسة الدولة، بل وابتزازها أحياناً. لا يمكن تفادي مسؤولية الدولة العربية عما آلت إليه صورة المشهد السياسي العربي، واتخاذها الصيغة التي هي عليها الآن. هذه الدولة رغم كل ما قيل هنا عن ضعفها، إلا أنها تحتكر كل السلطات، وتحتكر القرار، وتحتكر ملكية وسائل الإنتاج، وأجهزة العنف، وأجهزة التعليم، أو صناعة الثقافة. وهذه مفارقة واضحة: كيف تكون الدولة ضعيفة وهي تحتكر كل ذلك؟ لعل هذه القدرة على الاحتكار لا تنطبق تماماً على السلطة الفلسطينية، وهي لا تزال سلطة وليست دولة، وتحت الاحتلال. كما أنها قد لا تنطبق تماماً على دولة مثل لبنان حالياً. لكن النتيجة واحدة، ضعف الدولة يوجِدُ فراغاً يؤدي إلى بروز قوى منافسة للدولة، وتعتبر نفسها على المدى البعيد بدائل لهذه الدولة. صورة المشهد اللبناني حالياً توحي بما قد تؤول إليه عربياً حالة ضعف الدولة. هل يمكن القول بأن مثالي quot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot; لن يتكررا في أماكن عربية أخرى؟ ثم إن ضعف الدولة لا يأخذ دائماً، كما هو واضح، الصيغة نفسها في كل حالة.
- آخر تحديث :
التعليقات